تتصاعد الأزمة بين “إسرائيل” وحزب الله على قضية ترسيم الحدود البحرية وخصوصاً حقل “كاريش” للغاز في البحر المتوسط، في الوقت التي تحاول فيه “إسرائيل” حسم حقل “كاريش” لمصلحتها بنشرها منصة تنقيب في المنطقة المتنازع عليها، وتوقيعها عقوداً مع شركات دولية لبدء استخراج الغاز من “كاريش” مع بدء شهر أيلول/سبتمبر الحالي. هذه المعطيات دفعت سماحة السيد حسن نصر الله إلى التهديد بأن “المقاومة لن تقف مكتوفة اليدين، وأن كل الإجراءات الإسرائيلية لن تستطيع حماية المنصة العائمة لاستخراج النفط من حقل “كاريش”، خصوصاً بعد نشر حزب الله مقطع فيديو لسفن مشاركة في عملية التنقيب في حقل غاز “كاريش” في البحر المتوسط، وما سبقها من إرسال طائرات مسيّرة استطلاعية فوق الحقل، تدعي “إسرائيل” إسقاطها.
والحال هذه، هل نحن أمام مشهد تصادمي حتمي بين حزب الله و”إسرائيل” بخصوص حقل كاريش؟ أم هناك خيارات أخرى للخروج من الأزمة ومنع التصعيد؟
بات من الواضح أن الموقف الإسرائيلي في معضلة مركّبة ومعقّدة بالنسبة إلى موضوع ترسيم الحدود وحقل “كاريش” تحديداً، حيث القيادة الإسرائيلية للحكومة الانتقالية بقيادة يائير لابيد تدرك أن مواجهة حزب الله قبل الانتخابات الإسرائيلية تعد خياراً انتحاراً سياسياً لتلك القيادة.
فعلى الرغم من محاولتها تصدير قدرتها على أخذ زمام المبادرة في قرار الحرب والعدوان على قطاع غزة، وخصوصاً على حركة الجهاد الإسلامي، على الرغم من وجود حكومة انتقالية في “إسرائيل”، وأن هناك تناغماً واضحاً بين المستويين السياسيّ والعسكري في “إسرائيل” ، إلا أن المستوى العسكري في “إسرائيل” يدرك أن مواجهة حزب الله تختلف اختلافاً كاملاً من حيث معاييرها وقوتها وشراستها ومداها وفترتها الزمنية وحجم استهدافها الجبهة الداخلية الإسرائيلية، واتساع نطاقها الجغرافي، وتبعاتها الإقليمية والدولية عن عدوانها الأخير على غزة.
وأكد عدد من الخبراء الإسرائيليين أن المعركة لم تحقّق تغييراً استراتيجياً في قوة الردع الإسرائيلية على المستوى الإقليمي وخصوصاً تجاه حزب الله، بل في اعتقادنا كشفت عدم جاهزية حقيقية لإسرائيل في مواجهة قوة عسكرية مثل حزب الله تمتلك القدرة على قصف جبهتها الداخلية بثلاثة آلاف صاروخ يومياً، بدلاً من ٣٣٣ صاروخاً يومياً كما فعلت حركة الجهاد الإسلامي.
وبالحصيلة كل الخيارات الإسرائيلية تسعى لاستبعاد المواجهة العسكرية المفتوحة مع حزب الله، وتعد ذلك هدفاً استراتيجياً لبقية خياراتها الأخرى.
قد تسعى “إسرائيل” للتلكؤ في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، والعمل للعب على الوقت وتأجيل حسم قراراتها بالخصوص، وهو ما حذّر منه حزب الله، لكن تراهن “إسرائيل” في هذا السياق على:
أولاً: إمرار الانتخابات الإسرائيلية المزمع انعقادها في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وبالتالي تكون هناك حكومة جديدة وأكثر استقراراً في “إسرائيل”، يكون لها القدرة على إدارة الملف على نحو أكثر استقراراً من حكومة انتقالية في فترة انتخابات.
ثانياً: الرهان على التغيرات في الوضع اللبناني الداخلي، من خلال استحقاق انتخابات الرئاسة، معوّلة على سيناريو الفراغ الرئاسي وعدم تأليف حكومة مستقرة، إضافة إلى ضغوط الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب في لبنان.
كل تلك العوامل تشكل عناصر تحُدّ من قدرة حزب الله على الذهاب في مواجهة عسكرية من جهة، وتدفعه والدولة اللبنانية ليصبحا أكثر مرونة في التفاوض مع الوسيط الأميركي من جهة أخرى، خصوصاً مع إدراك “إسرائيل” أن هناك جهات لبنانية معنية بانهاء التفاوض بعيداً من حزب الله من أجل مصالحها السياسية والاقتصادية الحزبية والسياسية الضيقة.
إضافة إلى تأكد “إسرائيل” أن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي سيمارسان ضغوطاً كبيرة على الدولة اللبنانية لدفعها إلى صوغ اتفاق في أسرع ما يمكن لمنع التدهور العسكري الشامل، الذي بالتأكيد سيعرقل تدفق الغاز والنفط من الشرق الأوسط إلى أوروبا، فضلاً عن تأثير الحرب في رفع أسعار سوق الطاقة العالمية، لذا ألمح رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد إلى “أن موضوع حقل “كاريش” مرتبط مباشرة بأزمة الغاز والنفط العالمية”، مستدعياً بطريقة غير مباشرة الدور الأميركي والأوروبي في القضية.
تبقى المشكلة الإسرائيلية في أنهم يدركون جدية تهديدات حزب الله، خصوصاً أنها صدرت عن سماحة السيد حسن نصر الله شخصياً، الذي أكّدها في مناسبات عدة. وبالتالي، استخراج الغاز من حقل “كاريش” في مطلع شهر أيلول/سبتمبر معناه ضربة عسكرية من حزب الله، ما فتح الباب على نقاش واسع داخل الأروقة الإسرائيلية لبحث كيفية الرد على تلك الضربة، وهي في غالبها تتجه إلى ضرب أهداف لحزب الله، سواء داخل لبنان أو في سوريا شريطة ألا تجبر حزب الله على زيادة نطاق رد فعله عليها، والإبقاء على المحدودية الزمنية لفترة التصعيد ونطاقها العملياتي، والحرص على عدم الوصول إلى ديناميكية الفعل ورد الفعل، التي ستدحرج الأمر إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، وهذا آخر ما تتمناه “إسرائيل” في الوقت الراهن.