يخطئ من يظن أن تداعيات طوفان الأقصى وما تلاها من اعتداءات إسرائيلية بحق المدنيين، تحت عنوان القضاء على المقاومة في غزة وتحرير الأسرى، بالإضافة إلى مشروع إفراغ القطاع من ساكنيه، ستبقى محصورة في إطار ما يتم الحديث عنه من هندسة سياسية ترسم إطاراً جديداً للسلطة في القطاع.
فإمكان حصر الحديث أو تقديم الرؤى التي تدلل على تباين وجهات النظر بين الأنظمة العربية المعنية بترتيب الأوضاع في القطاع، على نحو لا يسبب لها حرجاً في مواجهة ظروف كتلك التي تعيشها اليوم، وبين الكيان الإسرائيلي، الذي استشعر خطراً وجودياً، وبالتالي يصر على قراره رفض أي تسوية تعكس نتائج المعركة التي تدور رحاها في أرض غزة، يُظهر قصوراً في الرؤية لحقيقة ما ستتركه نتائج المعركة الحالية من تداعيات على واقع القطاع، ومن خلفه محور المقاومة، ثم على الكيان الإسرائيلي وجبهة التطبيع، ومن خلفهما الولايات المتحدة الاميركية.
فانطلاقاً من أن قيادة المقاومة في قطاع غزة استهدفت من خلال عملية طوفان الأقصى توجيه ضربة، عنوانها الأساسي الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى ومحاولة تكريس قواعد اشتباك جديدة يُذعن الكيان الإسرائيلي من خلالها للقوة التي راكمتها المقاومة في القطاع، من دون أن نهمل سعي المقاومة الحثيث لإفراغ السجون الإسرائيلية من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، بحيث تخطى عددهم ثمانية آلاف معتقل، فإن الكيان الإسرائيلي، ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية وبعض القوى الإقليمية المطبعة، وجدت في طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي الهستيري فرصة في محاولة تمرير مخطط يستهدف ترتيب واقع قطاع غزة، على نحو يخدم مخططات تتقاطع فيها مصالح الولايات المتحدة، في سعيها للمحافظة على مكتسباتها كقطب أوحد، مع مصالح دول جبهة التطبيع، مع الكيان لناحية إنهاء الحالة الفلسطينية المقاومة كمدخل لمشروع شرق أوسطي تتكامل من خلاله رؤى هذه الجهات، السياسية والأمنية والاقتصادية.
وبين هاتين السرديتين، كان من الطبيعي أن يجد محور المقاومة نفسه معنياً بأن يساهم في المحافظة على الإنجاز الذي حققته المقاومة في طوفانها لجهة عدم السماح بالاستفراد بالقطاع، ومحاولة الالتفاف على الإنجازات التي تحققت، ومنع إسقاط المقاومة، ومساعدتها على إفشال تحقيق الأهداف التي أعلنها نتنياهو، ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، ومن جهة ثانية، العمل على ترجمة معركة طوفان الأقصى وما تلاها من حرب عالمية ضد المقاومة، انتصاراً استراتيجياً عنوانه إفشال مخططات الولايات المتحدة وجبهة التطبيع، لناحية محاولتهما تكريس واقع سياسي يُسقط القطاع في قبضة التطبيع، وذلك من خلال محاولة كيّ الوعي الفلسطيني لناحية تكريس حتمية إلغاء دور المقاومة في إدارة القطاع بعد انتهاء المعركة، مع إغفال أن يكون لنتائج الحرب الميدانية أي تأثير.
وبالعودة إلى المسار الزمني لمعركة طوفان الأقصى وما تلاها، كان واضحاً المسعى الأميركي والعربي لناحية استغلال حجم الهجوم الإسرائيلي في الضغط على قيادة المقاومة لتقديم التنازلات، ورفض القيادتين المصرية والأردنية كسرَ الحصار، والإصرار على إبقاء المعابر مغلقة، وعدم ممارسة أي ضغوط جدية على الكيان لتحييد المدنيين والبنى التحتية، من دون أن نغفل عما صدر عن القمة العربية الإسلامية لناحية الاكتفاء بدور الوسيط المسلّم بالسردية والخطاب الإسرائيليين.
وبالتالي، ونتيجة ذلك، لم يكن من الممكن تقديم أي قراءة متباينة عن تلك التي تتهم جبهة الدول المطبعة بالتواطؤ والمشاركة في المشروع الأميركي الإسرائيلي، انطلاقاً من قناعة مطلقة بفعالية الآلة العسكرية الإسرائيلية، وبنهائية القرار الإسرائيلي بشأن إنجاز مهمة القضاء على المقاومة في غزة، مهما كان حجم رد الفعل المقاوم. وفي هذا الإطار، ظهر الدعم الأميركي والغربي المطلق للكيان، بالإضافة إلى الحشود العسكرية في المتوسط، ورسائل التهديد لقوى المحور في لبنان والعراق واليمن والجمهورية الإسلامية في إيران، كعامل مساعد في تأكيد صحة خيارات تلك الجبهة.
غير أن الذي غاب عن الولايات المتحدة الأميركية والكيان الإسرائيلي وجبهة التطبيع أن يكون للمقاومة في غزة ومن خلفها جبهات المحور رد يعبر في جنباته عن الرفض المطلق لمخططاتها. فمن خلال المسار الذي اتبعته، سياسياً وعسكرياً، أكدت جبهة المقاومة أن محاولة إظهار المعركة في غزة على أنها تنحصر ضمن إطار الفعل المقاوم ورد الفعل الإسرائيلي لا تعبر عن رؤيتها للواقع. فالتحشيد الأميركي، وتخلي الدول العربية عن رؤيتها التاريخية لمركزية القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وعدم بذل أي جهد حقيقي في تحييد المدنيين ومنع ارتكاب الإسرائيلي إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، لا يمكن أن تُقرأ في إطار محدود كما يرغب الأميركي، وإنما تدلل على أهداف استراتيجية تتخطى قطاع غزة، لتفرض واقعاً جديداً على مستوى الشرق الأوسط ككل.
فالمشروع الأميركي لمرحلة ما بعد الأحادية القطبية يفترض ضرورة ترتيب نفوذه في المناطق التي يَعُدّها حيوية لبقائه في دائرة التفوق العالمي. وإذا انطلقنا من مشروع الربط الاقتصادي، والذي أعلنه الرئيس الأميركي جون بايدن في قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي، من حيث أهميته لمواجهة التمدد الصيني ومشروع الحزام والطريق، ستظهر أهمية القضاء على المقاومة في غزة، بحيث إنها تشكل تهديداً حيوياً لهذا المشروع الذي يرتكز على ميناء حيفا كحلقة وصل أساسية بين الشرق والغرب. وبحيث إن جبهة التطبيع ستشكل إلى جانب الكيان الإسرائيلي أهم حلقات هذا المشروع، وبالنظر إلى انخراطها أمنياً في إطار الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، سيظهر واضحاً سبب صمتها، إن لم نقل تواطؤها، عمّا يحدث في القطاع.
في هذا الإطار، لا يغيب عن عقل محور المقاومة أن الإنجازات التي حققتها قوى المقاومة، انطلاقاً من تأسيس العمل المقاوم وفق رؤية تنظيمية متماسكة، ووفق فعالية حوّلت المقاومة من مجرد مجموعة متناثرة لا تمتلك في جعبتها ما يمكن أن يشكل خطراً وجودياً على الكيان إلى جبهة متماسكة قادرة على أن تفرض معادلات إقليمية مؤثرة على رغم أنها في أكثرها كيانات غير دولتية، ستترك أثراً مقلقاً يتخطى في حدوده الكيان الإسرائيلي.
وبالتالي، يفترض المحور أن تداعيات التحرك لإفشال أهداف العدوان على قطاع غزة ستطال مشروع الولايات المتحدة الاستراتيجي في المنطقة.
وإذا استندنا إلى ظروف المعركة البرية أولاً، وظروف الهدنة الأخيرة ثانياً، لناحية نجاح المقاومة في فرض إيقاعها على شروطها ومسارات التبادل وإدخال المساعدات إلى القطاع، مع ما يعنيه الأمر من إذعان إسرائيلي وأميركي لظروف الميدان، فإن ذلك لا يعبّر إلا عن نجاح المقاومة في إفشال أهداف العدوان على غزة.
فالتسليم بعدم القدرة على تخطي حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وعدم إمكان تحرير الأسرى إلا من خلال التفاوض معها، مع ما يعنيه الأمر من فشل على مستوى هندسة القطاع سياسياً، سيترك تأثيره في واقع المنطقة، بحيث تظهر المقاومة كمن استطاع أن يفرض رؤيته.
وبالتالي، بحيث إن الإعلامَين الإسرائيلي والغربي أظهرا ما لساحات المقاومة الأخرى من تأثير في ظروف المعركة وشروط الهدنة، يمكن القول إن محور المقاومة، من خلال وحدة الساحات، نجح في إفشال محاولة الولايات المتحدة تمرير مشروعها في المنطقة.