google-site-verification=0y7SK1TSqpUjd-0k3R3QUeUDKj-1chg6Il-3Qtn7XUM
وكالة عيون القدس الإخبارية
وكالة عيون القدس الإخبارية

القرن الأفريقي في قلب الصراع: قراءة جيوسياسية في أهداف الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال

كتب د. عـمـر رحـال

لا يمكن التعامل مع اعتراف دولة الاحتلال الإسرائيلي بما يسمى”جمهورية أرض الصومال” بوصفه حدثاً دبلوماسياً عادياً أو خطوة ثنائية محدودة التأثير، بل يجب قراءته كجزء من إستراتيجية إسرائيلية مركبة تستهدف إعادة هندسة التوازنات الجيوسياسية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، ضمن مسار طويل من التغلغل في البيئات الهشة، واستثمار النزاعات الداخلية، واستخدام الاعترافات السياسية كأدوات لتكريس وقائع جيوسياسية جديدة تخدم مشروع الهيمنة الإسرائيلية في الإقليم العربي والإسلامي. فهذه الخطوة لا تنفصل عن رؤية أمنية سياسية إسرائيلية أوسع، ترى في البحر الأحمر وخليج عدن عمقاً استراتيجياً لا يقل أهمية عن شرق المتوسط، وتسعى إلى تحويله من مجال عربي  إسلامي مفتوح إلى فضاء مراقب ومخترق.

وقد عبر رئيس “أرض الصومال” عبد الرحمن محمد عبد الله عن ترحيبه الصريح بالاعتراف الإسرائيلي، واصفاً نفسه بأنه “أسعد إنسان في العالم” بعد هذه الخطوة، ومعتبراً إياها محطة مفصلية في مسار علاقات الإقليم الخارجية. غير أن هذا الترحيب، بقدر ما يعكس طموحاً سياسياً لدى سلطات الإقليم في البحث عن الاعتراف الدولي، يكشف في المقابل عن استعداد خطير للمقايضة على السيادة والأمن الإقليمي مقابل شرعية مشكوك فيها. فالتاريخ السياسي الحديث يبين أن الاعترافات الإسرائيلية بكيانات غير معترف بها دولياً لم تكن يوماً مجانية أو محايدة، بل ارتبطت دائماً بوظائف أمنية أو سياسية أو استخبارية، تخدم المصالح الإسرائيلية على حساب استقرار الدول والمناطق المحيطة.

إن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال يندرج ضمن مسعى واضح لتطويق قوى إقليمية مركزية، في مقدمتها مصر وتركيا والسعودية، وهي دول تشكل ركائز أساسية في معادلة الأمن الإقليمي في البحر الأحمر وشرق أفريقيا. فتموضع إسرائيل في هذه المنطقة لا يمكن فصله عن محاولة إعادة تشكيل موازين القوة، وإضعاف القدرة العربية والإسلامية على التحكم بالممرات البحرية الإستراتيجية. وليس من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا الاعتراف مع تصاعد التوترات في البحر الأحمر، ومع سعي إسرائيل إلى تأمين خطوط تجارتها وطرق إمدادها بعيداً عن أي ضغط سياسي أو عسكري محتمل.ولم يكن ذلك بعيداً عن لقاء بنيامين نتنياهو مع قادة قبرص واليونان  الأسبوع الماضي في سياق تحرك إقليمي منسق يتجاوز البعد الثنائي، ليشكل جزءاً من محور سياسي أمني في شرق المتوسط يهدف عملياً إلى تطويق تركيا وتقليص هامش حركتها الجيوسياسية. فتعزيز الشراكات الإسرائيلية مع قبرص واليونان، ولا سيما في ملفات الطاقة والأمن البحري والتعاون العسكري، يعكس سعياً إسرائيلياً لبناء شبكة تحالفات إقليمية تستثمر الخلافات القائمة بين أنقرة وبعض العواصم المتوسطية، وتحول شرق المتوسط إلى ساحة ضغط إستراتيجية على تركيا وبعض الدول العربية والإسلامية. كما ويقرأ هذا التقارب، في بعده العميق، باعتباره جزءاً من إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، وربط المسارات المتوسطية بمشاريع أوسع تمتد نحو البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية لتقييد أدوار القوى الإقليمية المنافسة، وفي مقدمتها تركيا.

وتزداد خطورة هذه الخطوة عند النظر إلى موقع “أرض الصومال” الجغرافي، إذ تقع على الشاطئ الجنوبي لخليج عدن، عند مدخل مضيق باب المندب، أحد أهم شرايين التجارة العالمية، والمؤدي مباشرة إلى البحر الأحمر وقناة السويس. كما يمتد ساحل الإقليم على خليج عدن لمسافة تقارب 740 كيلومتراً، ما يمنح أي قوة أجنبية متمركزة فيه قدرة على التأثير في حركة الملاحة الدولية، ورصد السفن التجارية والعسكرية، والتدخل في معادلات الأمن البحري. ومن هنا، فإن الحديث عن إتاحة وصول إسرائيل إلى ميناء بربرة لا يمكن اعتباره تفصيلاً تقنياً، بل مؤشراً استراتيجياً بالغ الخطورة على الأمن القومي العربي.

وفي هذا السياق، يبدو أن ما يجري يتجاوز مسألة الاعتراف السياسي، ليصب في إطار أوسع يهدف إلى إقامة نظام هيمنة إقليمي يمتد من بحر قزوين إلى خليج عدن، ومن شرق المتوسط إلى الخليج العربي، عبر شبكة من نقاط النفوذ والقواعد والتحالفات الهشة. ويستند هذا النظام إلى تطويق الدول المحورية، وإضعاف قدرتها على الحركة المستقلة، وتحويل الأطراف الجغرافية إلى ساحات نفوذ واختراق. وهو ما يجعل القرن الأفريقي، في هذه القراءة، حلقة أساسية في مشروع استراتيجي يستهدف إعادة ترتيب المجال الأمني العربي من خارجه.
ولا يمكن فصل هذا التطور عن التغلغل الإسرائيلي المتسارع في القارة الأفريقية، حيث عملت إسرائيل خلال السنوات الأخيرة على توسيع حضورها السياسي والأمني والاقتصادي، مستفيدة من هشاشة بعض الدول، ومن النزاعات الداخلية، ومن حاجتها إلى الدعم التكنولوجي والأمني. وقد اتخذ هذا التغلغل أشكالاً متعددة، من صفقات السلاح والتدريب الأمني، إلى التعاون الزراعي والتكنولوجي، وصولاً إلى بناء شبكات استخبارية غير معلنة. وفي هذا الإطار، تمثل أرض الصومال بالنسبة لإسرائيل موطئ قدم مثالياً، يجمع بين الهشاشة السياسية، والموقع الجغرافي الحساس، والاستعداد المحلي لعقد صفقات غير متكافئة مقابل الاعتراف.

وتتعاظم المخاطر مع تداول سيناريوهات تتعلق بإمكانية إقامة قاعدة عسكرية إسرائيلية، أو قاعدة تجسس واستخبارات، في الإقليم. فمثل هذا التطور سيؤدي إلى اختلال خطير في توازنات الأمن في البحر الأحمر، وسيمنح إسرائيل قدرة غير مسبوقة على مراقبة التحركات العسكرية والتجارية للدول العربية، والتأثير في النزاعات الإقليمية، وفرض وقائع أمنية جديدة يصعب تفكيكها لاحقاً. كما يشكل ذلك تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي، لا سيما لمصر والسعودية والدول المطلة على البحر الأحمر، التي ترتبط مصالحها الإستراتيجية ارتباطاً وثيقاً بأمن باب المندب.
وإلى جانب الأبعاد الأمنية والعسكرية، تطرح إسرائيل توسيع التعاون مع أرض الصومال في مجالات مدنية رئيسية، مثل الزراعة والتكنولوجيا والرعاية الصحية والتجارة. ورغم تقديم هذا التعاون في الخطاب الرسمي كدعم للتنمية ونقل للمعرفة، إلا أن التجربة التاريخية تشير إلى أن هذه الشراكات غالباً ما تشكل مدخلاً لتعميق النفوذ السياسي والأمني، وربط الاقتصادات المحلية بالمنظومة التكنولوجية الإسرائيلية، بما يخلق علاقات تبعية طويلة الأمد. فالتنمية هنا ليست هدفاً بحد ذاتها، بل أداة من أدوات التمكين الاستراتيجي.

وتأخذ هذه الخطوة بعداً أشد خطورة عند ربطها ببعض الطروحات المتداولة حول استيعاب سكان من قطاع غزة خارج فلسطين، وهي طروحات تعكس توجهاً استعمارياً واضحاً يقوم على تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وإعادة توزيعهم جغرافياً بما يخدم مصالح الاحتلال. إن إدخال أرض الصومال في مثل هذه السيناريوهات المحتملة لا يحولها فقط إلى ساحة اختراق أمني، بل إلى جزء من مشروع تصفية سياسية وديمغرافية لقضية فلسطين.

إن مجمل هذه المعطيات يؤكد أن الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس حدثاً معزولاً، بل خطوة محسوبة ضمن مشروع أوسع لإعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة، وإضعاف الدول العربية والإسلامية، وفرض واقع أمني جديد على البحر الأحمر وخليج عدن. ومن ثم، فإن غياب رد عربي وإسلامي منظم إزاء هذه التطورات لا يمكن تفسيره إلا بوصفه إخلالاً جسيماً بمقتضيات الأمن القومي، وتفريطاً بمصالح إستراتيجية لا تحتمل التسويف أو التجاهل.

لذلك المطلوب اليوم تحرك عربي وإسلامي فاعل، يتجاوز حدود الإدانة اللفظية إلى بلورة إستراتيجية سياسية وأمنية واضحة، تدعم وحدة الصومال، وتمنع شرعنة الكيانات الانفصالية، وتواجه محاولات تحويل القرن الأفريقي إلى ساحة نفوذ إسرائيلي متقدمة. كما يتطلب الأمر إعادة تعريف الأمن القومي العربي بوصفه منظومة مترابطة، تبدأ من فلسطين ولا تنتهي عند باب المندب، وتستند إلى وعي بأن أي اختراق في الأطراف سرعان ما يتحول إلى تهديد مباشر في القلب. وفي غياب هذا الوعي والتحرك، ستواصل إسرائيل استثمار الفراغات السياسية، وبناء وقائع إستراتيجية جديدة، تفرض لاحقاً باعتبارها أمراً واقعاً، فيما يترك العالم العربي أمام نتائجها دون أدوات حقيقية للمواجهة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.