في استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي تبدو الولايات المتحدة وكأنها تنسحب خطوة إلى الخلف من الشرق الأوسط، لكنها في الحقيقة تعيد التموضع لا أكثر، وتنقل مركز ثقلها المباشر إلى آسيا وملف الصين وروسيا وتخفف كلفة الانخراط العسكري المباشر في الإقليم، مقابل تفويض وظيفي كامل لإسرائيل لتكون ذراعها المتقدمة وأداتها الصلبة في فرض التوازنات الجديدة وضبط الإقليم بالقوة.
هذا التحول لم يأت فجأة بل هو حصيلة مسار طويل من الإرهاق الأمريكي في حروب الشرق الأوسط وفشل مشاريع إعادة الهندسة السياسية من العراق إلى أفغانستان ومن صعود قوى دولية منافسة تجعل واشنطن ترى أن معركتها الكبرى لم تعد هنا، بل في شرق آسيا غير أن الانسحاب الكامل مستحيل لأن المنطقة ما زالت مركز الطاقة ومفترق طرق التجارة العالمية وساحة صراع النفوذ الدولي، لذا كان الحل الأمريكي هو إدارة المنطقة عن بعد، عبر حليف يملك التفوق العسكري والاستعداد الأيديولوجي لاستخدام القوة بلا قيود وهنا تتقدم إسرائيل لتشغل هذا الفراغ .
إطلاق يد إسرائيل لم يكن مجرد دعم سياسي أو عسكري تقليدي، بل تحول إلى غطاء كامل لسلوكها العدواني من فلسطين إلى لبنان وسوريا وصولا إلى غزة، التي تحولت إلى مختبر مفتوح لإعادة تعريف مفهوم الردع وفرض السلام بالقوة، السلام هنا لا يعني إنهاء الصراع بل كسره وإخضاعه وإجبار الشعوب على التعايش مع الهزيمة كأمر واقع، وهذا ما يتقاطع تماما مع الرؤية الأمريكية الجديدة التي ترى أن الاستقرار لا يتحقق عبر الحلول السياسية بل عبر سحق مراكز المقاومة وتفكيك أي قدرة على التحدي .
ما يجري هو محاولة واعية لتغيير وجه الشرق الأوسط، إعادة رسم قواعده السياسية والأمنية عبر القوة العارية، تحويل إسرائيل من كيان وظيفي محاصر إلى قوة إقليمية قائدة قادرة على الضرب والردع والتدخل وفرض الإملاءات نيابة عن واشنطن، وهذا يفسر الصمت الأمريكي عن الجرائم الإسرائيلية بل وتبريرها، لأن ما تقوم به إسرائيل يخدم الهدف الاستراتيجي الأكبر، إضعاف محور المقاومة تفتيت المجتمعات إشغال الدول بأزماتها الداخلية، وفتح الطريق أمام تطبيع قسري مجاني يقوم على الخوف لا على القناعة .
لكن هذا التفويض يحمل في طياته مخاطر هائلة، فالهيمنة بالقوة قد تفرض صمتا مؤقتا، لكنها لا تصنع استقرارا حقيقيا بل تؤسس لانفجارات أكبر لاحقا، لأن الشعوب التي تُقهر لا تنسى ولأن القوة حين تصبح اللغة الوحيدة تفتح الباب أمام منطق الفوضى الدائمة، والشرق الأوسط اليوم يقف على حافة مرحلة جديدة عنوانها صراع مفتوح بين مشروع الهيمنة والتطبيع والاخضاع ومشروع الرفض والمقاومة.
المعنى الأعمق لما يحدث أن الولايات المتحدة لم تغادر الشرق الأوسط، بل غيرت شكل حضورها من جندي في الميدان إلى قائد من الخلف، ومن لاعب مباشر إلى مدير صراعات، بينما تُمنح إسرائيل دور الشرطي الإقليمي القاسي، وهذه معادلة قد تخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية مرحليا، لكنها تزرع بذور عدم الاستقرار لعقود قادمة لأن فرض السلام بالقوة لا يصنع سلاما بل يؤجل الانفجار ويعمق الجرح ويعيد إنتاج الصراع بأشكال أكثر عنفا واتساعا .