حين سأل محقق مخابرات الاحتلال الإسرائيلي محمود العارضة قائد مجموعة انتزاع الحرية من سجن “جلبوع”، كيف عرفت أنك وصلت إلى نهاية النفق؟ أجابه العارضة: “رأيت الشمس وهكذا أدركت أنها النهاية”، هذه الكلمات كانت خبراً ليس عادياً في صباح يوم طلعت الشمس ساطعة حادة، ليست كالشمس التي اعتدناها.
عام على انتزاع حريتهم، إذ عَلا صوت البلاد مرة واحدة، هاتفاً بأسمائهم: محمود العارضة، محمد العارضة، زكريا الزبيدي، أيهم كممجي، مناضل انفيعات، يعقوب قادري، ستة أسرى انتزعوا حريتهم بملعقة حفروا صخور النفق في داخل أكثر سجون الاحتلال تحصينا وحراسة سجن “جلبوع”، أو الخزنة الحديدة.
ويوم أُعلن انتصار الأسرى بكسرهم قيود السجان، أطلق الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة اسم “كتيبة جنين” على الأسرى الستة، ليصبح هذا الاسم كابوسا يلاحق المحتل بعدما تشكلت مجموعة عسكرية في جنين حملت اسم “كتيبة جنين”.
نفذت الكتيبة سلسلة عمليات ضد قوات الاحتلال وتصدت لاقتحامات واعتداءات الاحتلال، وامتدت الكتائب إلى بقية المحافظات بالضفة المحتلة، لتصل طولكرم ونابلس وطوباس، وهنا صفحة جديدة في صفحات مشاغلة المحتل.
ستة أسرى فلسطينيين استطاعوا، في مثل هذا اليوم من العام الماضي، أن يهربوا من سجن جلبوع، الأكثر حراسةً بين جميع سجون ومعتقلات الاحتلال في فلسطين المحتلة، والمزوّد بمجسَّات تكشف الاهتزازات داخل السجن، وفي باحاته ومحيطه، إلى درجة أنَّ الاحتلال الإسرائيلي يسمّيه “الخزنة الحديدية”، لصعوبة اختراق احترازاته الأمنية المشدَّدة.
لكنَّ إرادة الحرية مكَّنت كلاً من محمود عارضة (العقل المدبر للعملية)، محمد عارضة، يعقوب قادري، أيهم كممجي، مناضل نفيعات، وزكريا الزبيدي، من نسف استقرار سلطات الأمن في جلبوع، بعد هروبهم عبر نفقٍ حفروه من تحت مغسلة في زنزانتهم، بوساطة ملاعق الطعام، وامتدَّ لعشرات الأمتار في باطن الأرض، وصولاً إلى فتحة الحرية القريبة جداً من أحد أبراج الحراسة، لتبقى في الذاكرة صورة تحمل أبلغ معاني الحيرة لأحد ضباط الاحتلال، مُقَرفصاً يتأمّل فوهة خروج الأسرى.
شمس الحرية التي خرجت من النفق، الهروب الكبير، نفق الحرية، كسر قبضة السَّجَّان… كلها مُسميَّات لعملية الهروب التي وصفها كثيرون بأنّها مُقارِبة جداً لنظيرتها في فيلم “The Shawshank Redemption”، فيما ألمح البعض إلى أنَّ أبطال ذاك الهروب أحالوا الدراما إلى واقع، في إشارة إلى المسلسل الفلسطيني الذي حمل عنوان “الروح”، وعُرِض في العام 2014، وأخرجه عمار التلاوي، ويحكي قصة هروب مشابهة لأسرى فلسطينيين ضمن أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي، وكيفية تعاضدهم ومقاومتهم لشتى أشكال الضغوط اللا إنسانية، وصولاً إلى الحرية المبتغاة. في حين أنَّ الواقع تحوَّل إلى دراما مقتَبسة عن قصة الهروب من السجن الإسرائيلي الأعتى تحصيناً، وذلك في مسلسل “شارة نصر جلبوع”، للمخرج حسام أبو دان، بعد أن قام فريق العمل بمقاربة درامية وبحث حقيقي، للتعرف أكثر على طبيعة الأسرى وعمق معاناتهم في السجن، وذلك من خلال الحديث مع أهلهم والمقربين منهم، ما زاد من زخم المصداقية في المسلسل الذي صُوِّر في غزة، وتعرَّض للكثير من المضايقات أثناء التصوير، وبعد بثه على “يوتيوب.”
لكن لو قُيِّضَ لبعض المخرجين العرب أن يصنعوا وثيقة سينمائية، تُحاكي عملية الهروب الكبير التي قام بها الأسرى الـ6، فكيف كانوا سيقدِّمونها؟ وما هي بؤرة التركيز في رؤيتهم السينمائية؟ وهل سيعتمدون الصيغة الوثائقية أم الدرامية أم الديكودرامية؟ وما الذي سيثير حفيظتهم البصرية خلال تصوير عملية الحفر، وتفاصيل السجن، وظلامية السَّجَّان في تعامله مع 6 أسرى، 4 منهم محكومٌ عليهم بالسجن المؤبَّد، و2 موقوفان لفترة غير معلومة. 5 منهم من حركة “الجهاد الإسلامي”، وواحد من “كتائب شهداء الأقصى”، وكلُّهم من جنين، بحيث أنَّ الارتباك الذي حصل بعد العملية جعل قوات الاحتلال الإسرائيلي تكثّف تمشيط المزارع والحقول المجاورة للسجن، وتُشدد على المنافذ البرية الموصلة إلى جنين، وكذلك إلى الأردن التي قد يلجأ الأسرى إلى سلوكها. وما هو المشهد الذي سيُنهي به المخرجون فيلمهم؟ هل سترضيهم النهاية الواقعية بإعادة أسر السجناء الـ6 خلال فترة أسبوعين، أم أنّهم سيفتحون أبواب الخيال على مصراعيها لنحصل على خاتمة مختلفة؟
هذه الأسئلة كانت محور التحقيق الذي أجرته “الميادين الثقافية”.
“فلاش باك”.. بانوراما بين الظلام والنور
يوضح المخرج الفلسطيني سعود مهنا، في تصريحه لـ”الميادين الثقافية”، أنَّ “عملية نفق الحرية مهمة جداً في تاريخ النضال الفلسطيني، لشباب آمنوا بالحرية بعد معاناتهم المريرة في أعتى السجون الإسرائيلية، والظلم الذي لا يتحمله بشر، في حين أن كثير من مؤسسات وجمعيات حقوق الإنسان تغمض عيونها عن ذاك الواقع”.
ويقول مهنا في إجابته: “فيما لو صنعت فيلماً عن الهروب الكبير، سأبدأ منذ تمكّن الجيش الإسرائيلي من وضع الأبطال الـ6 في الأسر مرة أخرى، ثم بتقنية “الفلاش باك” أعود لتصوير كيف يتذكرون هروبهم، وكيف صنعوا وخطّطوا وسهروا الليالي للتفكير بكيفية خروجهم من هذا السجن الكبير، وأسجّل محاولات عديدة لهم لم تنجح في كسر أسرهم، لكنَّ نواياهم لم تفشل أبداً، وإبداعم لم يَخِب، وبقي ظنهم بأن الله سيكون معهم”.
ويضيف: “سأرصد هذه المحاولات العديدة، سريَّتَها، وكيف كانت حركتهم وتعاونهم مع الأسرى الآخرين، وخوفهم من المخبرين داخل السجن، وتعاملهم مع ضباط السجن وحراسه، بمعنى أنّني سأصنع بانوراما حول وجودهم في الأسر، كما سأركّز على أنَّ الإعلام كان ضدّ العملية، ولو بحسن نيّة، وكذلك كل ما كُتِبَ على “فيسبوك” و”تويتر” والمواقع والفضائيات، لأنه جاء بمثابة رسائل ترصدها إسرائيل بكلِّ قوة، وتراقبها لأنّها تتوخّى أي خبر أو معلومة يقودهم إلى أسرى الحرية، وهذا دليل على أن الإعلام يُفْشِل الكثير من العمليات والكثير من تضحيات الأسرى المناضلين، مع العلم أنّنا نتوقّع أن يكون بعض المراقبين أو المحللين، بما فيهم العرب والفلسطينيون، مخبرين لإسرائيل. في حين أن العمليات في أواخر السبعينيات والثمانينيات لم نكن نعلم عنها إلا بعد حصولها، سواء أكانت لهروب الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، أو وصول المطلوبين إلى مصر أو ليبيا بعدما خرجوا من غزة”.
ويتابع مدير ملتقى “مهرجان العودة السينمائي” بأنَّ “عملية الهروب الكبير جميلة جداً في الواقع، وعلى الصعيد الدرامي كذلك، لذا سأركّز على الحالة النفسية للأسرى أثناء التفكير والتنفيذ للعملية، وأيضاً في أول رؤيتهم للنور حينما خرجوا من الأسر، وعلاقتهم مع عائلاتهم، وكيف كانوا يتخيّلون لقاءهم بذويهم من أبنائهم وآبائهم وحبيباتهم وزوجاتهم وجيرانهم، وسأركّز أيضاً على لغة الاشتياق بعد الحرية، وماذا كانوا يخططون، وكيف سيكملون المسيرة؟ كل هذه الأحداث والرؤى والأفكار سأتناولها من الناحية النفسية. كما سأركز على الأبعاد النفسية لأبناء الأسرى وزوجاتهم. بمعنى أنني سأحاول صياغة بانوراما ما بين الأسرى وهروبهم، من جهة، وبين وضع أهاليهم وصورهم المعلَّقة على جدران الغرف والألبومات، من جهة ثانية، مع رصد لذكرياتهم في الأزقة والمخيم وتحت الأشجار وفي البيّارات.
ويؤكّد المخرج الفلسطيني سعود مهنا أنَّ “أيَّ مخرج لديه الوعي الكافي عن حياة الأسرى وأسرارهم وخباياهم وعذاباتهم وأحلامهم، سيُقدّم عملاً سينمائياً جميلاً، وسيكون بانوراما ما بين الهروب والحرية، ما بين الظلام والنور، ما بين الطمأنينة والخوف من أن تطالهم يد الجيش الإسرائيلي، وأن يعودوا إلى السجن مرة أخرى، بما يعنيه ذلك من ظلم وعذاب وذل متجدد”.
ويختم مهنا حديثه لـ”الميادين الثقافية” بالقول: “لو أتيح لي صناعة فيلم عن هذه العملية، سأجعله بانوراما تُبيّن مدى أهميتها، ومدى بطولة هؤلاء الأشخاص الذين حفروا الصخر بالملاعق حتى يخرجوا إلى الضوء، وسأرصد عذابات الأسرى وأفكارهم وإبداعاتهم وصمودهم وكل ما يتعلق بذويهم، لأوصل رسالة بأنَّ إسرائيل بِرُمَّتها ما هي إلا وهم يستطيع الإنسان تحطيمه، وسجونها مثلها هشّة، ولو كانت مزوَّدة بأهم وسائل رصد الحركة، وفيها أعتى الحُرَّاس”.
مقاوَمة مفعمة بالإنسانية
من جهته، يقول المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور، في حديثه لـ”الميادين الثقافية” إنَّ “الإرادة والعزم والتصميم والصبر قادت هؤلاء الأسرى الأبطال إلى الحرية. رفضوا الذل والمهانة، وهم أصحاب حق. وهذا الهروب هو فعل تحدٍّ للعدو الصهيوني وجبروته وصلافته”.
يؤكّد أنزور أنَّ “عملية الهروب الشجاعة تلك ملهِمة لأي فنان”، ويُضيف: “أنا كسينمائي أتمنّى أن أُجسّد هذه الملحمة الإنسانية، بكل أبعادها، في فيلم يحاكي الواقع، ويعكس معاناة آلاف الفلسطينيين الأسرى، الذين يقبعون ظلماً وبُهتاناً في سجون الاحتلال. وسأؤكد أنه لا جدران ولا أسلاك تستطيع أن تقف في وجه هؤلاء الأسرى الأبطال، وأن عملية الهروب الكبير نوعية، وهي مقاوَمة متطورة مفعمة بالإنسانية، أضف إلى ذلك أنها كشفت وهن العدو الصهيوني”.
ويلفت أنزور إلى أنّه “لو أنَّ هذه العملية حدثت في الولايات المتحدة أو أوروبا لتلقّفتها شركات الإنتاج السينمائي، وجسّدتها في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي هوليوودي، واختلقت لها الأبعاد الإنسانية والاجتماعية”، لكنه يتابع: “لكن للأسف السينما العربية مغيَّبة تماماً عن قضايا شعوبها، والأنظمة العربية عموماً مرتهنة للتبعية والتطبيع مع العدو الصهيوني. هناك تجارب محدودة في السينما السورية استطاعت أن تحاكي الواقع خلال الحرب على الإرهاب، وفيلم “رد القضاء” خير مثال، حيث صمدت حامية سجن حلب، وقاومت ببسالة مع بعض السجناء جحافل الإرهابيين، وقدّمت عشرات الشهداء حتى تمَّ تحريره على يد أشاوس الجيش العربي السوري، وهو مثال حي عن رفض شعبنا لكل أشكال الإرهاب”.
ويُكمل أنزور حديثه إلى “الميادين الثقافية” بالقول: “أنا على يقين بأنّه سيأتي اليوم الذي تستطيع فيه السينما العربية كسر القيود والانطلاق نحو الإنسانية، وهناك عشرات بل مئات اللحظات المضيئة في تاريخنا المعاصر، التي بإمكاننا تجسيدها في أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية، وتمثّل إرادة شعبنا العربي في محاربة الإرهاب، وعلى رأسه الإرهاب الصهيوني، الذي إن طال الزمن أو قصر فهو إلى زوال”.
عرس الحرية
بدوره، بيّن المخرج السوري جود سعيد، في تصريحه لـ”الميادين الثقافية”، بأنَّ مقاربته السينمائية لعملية نفق الحرية فيما لو قُيِّض له أن يصنع فيلماً عنها ستكون أشبه بالعرس، وأوضح ذلك بالقول: “كنت صنعت عرساً سينمائياً عن ذلك الهروب الكبير. وأعتقد أنَّ التغيير في الرواية الواقعية لأحداث تلك العملية واجب، لذا سأغير النهاية، لأننا نستحق الانتصار ولو في السينما. سأبدأ الفيلم من تحقيق وإهانات متكررة يتعرض لها محمود عارضة، أكبر الأسرى والعقل المدبّر للقصة، لتبدأ رحلة التخطيط، ومن ثم التنفيذ، الذي سيصل إلى لحظة حسّاسة تكاد تفقدهم الحرية، مما يجعل أحدهم يضحي بنفسه، ومن ثم نسير معهم في درب حريتهم، الذي ينتهي مأسوياً بالنسبة لأحد الأسرى، وسقوطاً في يد الشرطة لآخر، لكن أصغرهم ينجح في الوصول لحبيبته والزواج منها، لتكون النهاية، بعد مرور سنوات، مع طفله الذي سيكمل درب بقاء فلسطين”.
يُذكر أن سجن “جلبوع” تأسس في العام 2004، عقب الانتفاضة الثانية. وفي شهر آب/أغسطس 2014، اكتُشِفَ أول نفق كبير بدأ الأسرى بحفره، ومنذ ذلك الحين زادت التحصينات الأمنية داخل السجن وفي محيطه، بما في ذلك تفعيل نظام الطوارئ، خاصّةً بعد محاولة الهروب من سجن “شطة”، الملاصق لسجن “جلبوع”. وبحسب شهادة الأسرى، فإن السجن يخضع لرقابة مشدَّدة، ويحتوي على مجسات تكتشف الاهتزازات داخل السجن.