المتابع للحالة الفلسطينية على مدار الأعوام الممتدة 1987 وحتى اليوم 2022 يمكن الملاحظة بوضوح أن الثابت الوحيد خلاله هو “حركة الجهاد الإسلامي” وما مثلته من مقاومة للاحتلال قولا وفعلا، دون تبديل أو خروج عن الهدف الأسمى “نهضنا لقتال العدو وما دون ذلك هوامش”.
وعدم انشغال الحركة التي ولدت من رحم المقاومة وأكملت طريقها فيها، في هوامش السياسية والصراعات الداخلية والحزبية، هو ما أوصلها اليوم لتكون مجددة المقاومة في الضفة الغربية بعد سنوات طويلة من “السكون”، بالرغم من محدودية كوادرها في الضفة الغربية وشح السلاح وملاحقة كوادر الحركة المالية واعتقالها قادتها وكوادها من الاحتلال والسلطة الفلسطينية على حد سواء، مما جعل هذا التجدد حالة “مستحيلة” تفوقت بتكريسها الحركة وجناحها العسكري “سرايا القدس” وبجدارة.
تليبة لنداء القدس
وبتتبع الأحداث على أرض الضفة الغربية، فإن بداية هذا النهوض يعود إلى سنوات أطول من عمر معركة “سيف القدس” كما يبدو ظاهريا، بل إلى سنوات من العمل المقاوم المحدود والمتمركز في مخيم جنين، وما رافقه من تنظيم لمقاومين كرسوا كل الجهد والوقت والمال والنفس في سبيل مقارعة العدو على نقاط التماس.
خلالها، كان العنوان واضحا لكل من أراد المقاومة في المخيم: حركة الجهاد الإسلامي، حتى العام 2021 وما رافقها من جنون “إسرائيلي” بالاعتداء على القدس والمسجد الأقصى والشيخ جراح، فكان مقاومو السرايا في المخيم أول من لبوا النداء وخرجوا فرادى للانتقام من الاحتلال من خلال عمليات إطلاق نار وكمائن.
استمرار الاعتداءات “الإسرائيلية” في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل والقطاع، وما تبعها من رد المقاومة في قطاع غزة بمعركة حملت القدس عنوانا “سيف القدس” عجلت من اشتعال نار المقاومة في الضفة وحولتها لساحة إسناد حقيقية للمقاومة في القطاع من خلال العشرات من عمليات إطلاق النار على أهداف صهيونية.
بداية هذا العمل كان مع خروج مجموعة من المسلحين في وسط مخيم جنين ببيان داعيين فيه إلى الاشتباك مع الاحتلال وملاحقة المستوطنين.
من الذي تلي البيان كان الشهيد “جمل العموري” أحد قادة سرايا القدس في المخيم، والذي وصى أيضا كل من يحمل السلاح: “لا تطلقوا الرصاص في الهواء” والتوجه به لنقاط الاشتباك وملاحقة المستوطنين، وكان هو أول من حفظ الوصية وخاض مع مجموعات المسلحين الاشتباكات المباشرة مع الاحتلال في جنين ومخيمها.
لم يمض الكثير حتى حدد الاحتلال هدفه باغتيال العموري، الذي تحول بعمله المقاوم لملهم لكل المقاومين، ولقب بينهم ب “أسد الاشتباكات”.
طارد الاحتلال العموري وحاول اغتياله مرارا، حتى إن عائلته وأبناء المخيم كانوا يعلمون يقينا أنه “مطلوب للتصفية” وليس للاعتقال، وهو ما كان بالفعل في العاشر من حزيران/ يونيو 2021.
باغتيال العموري تحققت مخاوف الاحتلال أكثر وتحول إلى الملهم الأول لعشرات الشبان في جنين وخارجها، وتشكلت مجموعة من المقاومين التي حملت اسمه من أصدقائه وأفراد مجموعته.
نفق الحرية وبداية الكتيبة
ولكن نقطة التحول الحقيقة كانت بعد عملية “نفق الحرية” البطولية، وتمكن الأسرى الستة-خمسة منهم من قادة سرايا القدس الذين اعتقلوا بعد تنفيذهم لعمليات مقاومة-من تحرير أنفسهم من سجن جلبوع.
في ذلك خرج عشرات المقاومين بأسلحتهم في المخيم معلنين عن تشكيل ” كتيبة جنين” مستمدين اسمها من خطاب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي “زياد نخالة” الذي وصف فيه الأسرى الستة ب”كتيبة جنين”.
وجاء في استهلال خطاب الأمين العام:” إنه يومٌ للفرح كبير، ويومٌ جديدٌ في جهاد الشعب الفلسطيني. إنها كتيبة الحرية كتيبة جنين الملحمة، تخترق كل إجراءات الأمن الصهيوني، وتهدي لشعبنا يوماً عزيزاً وعبوراً آمناً من الزنزانة إلى الحرية”.
حمل مقاتلو الكتيبة فكر “سرايا القدس” على ظهورهم وشعارها على بنادقهم، ومضوا على وصية مؤسسها العموري معلنين أن مهمتهم الأولى هي تشكيلهم حاضنة لحماية الأسرى الستة وتأمين وصولهم إلى المخيّم والدفاع عنهم.
وبعد أيام أعلنت الكتيبة عن تشكيل عرفة متابعة موحدة في المخيم تضم مقاتلين من جميع الفصائل لمتابعة هذه المهمة.
ولتأمين وصولهم للمخيم، نفّذت الكتيبة “فعاليات إرباك” يومية من خلال تنفيذ عمليات إطلاق النّار على الحواجز المحيطة بمدينة جنين ومخيمها، إلى جانب المسيرات العسكريّة داخل المخيّم، على مدار أيام حريتهم الخمسة هدفها إيصال رسالة للاحتلال بقوة المقامة وتنظيمها من جهة، ومن جهة أخرى إعلان عن مرحلة جديدة من المقاومة في المخيم.
ومن هنا كانت انطلاقه الكتيبة لتشكيل حالة تجدد ثانية مع الاحتلال بعد سنوات من السبات في الضفة الغربية، وتبدأ بتنفيذ عملياتها في جنين ومحيطها، ومدنا أخرى أصابتها عدوى مقاومة “جميل العموري” وكتيبته فكانت كتيبة نابلس التي أوجعت الاحتلال بعمليات إطلاق نار نوعية، وكتيبة طولكرم وكتيبة طوباس.
كان الاحتلال أول المتنبهين لخطورة حالة المقاومة التي خلقتها الكتيبة في جنين ومقاتلو الجهاد الإسلامي، وبدأ بتنفيذ عمليات اغتيال وتصفية للمقاومين في مخيم جنين، في عمليات اقتحامات يومية اتسمت بمستوى العنف الكبير من قبل الاحتلال.
في المقابل، كانت الكتيبة مع كل اقتحام تثبت جدارتها في التصدي لهذه الاقتحامات وخلق حالة من الرعب في نفوس قوات الاحتلال يحسب لها كل الحسابات العسكرية والأمنية، فلا تمضي أي اقتحام أو محاولة اعتقال دون اندلاع اشتباكات عنيفة مع المقاومين.
عدوى المقاومة وانتشارها
الرعب الأكبر لدى الاحتلال كان بامتداد المقاومة في الضفة فكرا وممارسة، وتحديدا في البلدة القديمة من مدينة نابلس، وبين عناصر من كتائب الأقصى-الجناح العسكري لحركة فتح، وهو ما استدعى امتداد المواجهة وتكليف الاحتلال مزيدا من الخسائر خلال اقتحاماته للمدينة وتحديدا البلدة القديمة منها والتي تحصن فيها مقاتلي كتيبة جنين.
وفيما بعد، انبثق عن الكتيبة في نابلس مجموعة “عرين الأسود” التي اتخذت من قلب البلدة القديمة-والتي لها تاريخ طويل وممتد من مقاومة الاحتلال-مقرا لها ونفذت عمليات إطلاق نار استهدفت أهدافاً عسكرية إسرائيلية في محي المدينة، والمستوطنين بشكل مباشر وتحديدا في محيط مقام يوسف شرق المدينة.
المحلل السياسي والمتابع للشؤون الإسرائيلية نهاد أبو غوش اعتبر أن الخطر الأمني الأكبر حاليا لدى الاحتلال حاليا هو “كتيبة جنين” وحركة الجهاد الإسلامي تحديدا. فبالرغم من اغتيال قادتها العسكريين في القطاع خلال العدوان الأخير الذي نفذته في أب/ أغسطس الفائت، وقتل عدد كبير من مسلحي الكتيبة وحجم الاعتقالات والملاحقة في الضفة الغربية، إلا أنها لا تزال قادرة على قيادة الشارع الفلسطيني.
وقال أبو غوش إن الخوف التركيز من الجهاد الإسلامي لسببين الأول أن الحركة متصلبة ولا تذهب لمساومات ولا تطمح للسلطة بحيث يمكن الضغط عليها سياسيا، والثاني أن إسرائيل تعتبرها رأس الحربة في الضفة وأنها مسؤولة عن إعادة البنية التحتية لأنظمة المقاومة في أنحاء مدنها.
وبالفعل فقد استطاعت حركة الجهاد الإسلامي بثباتها على مبدأ “المقاومة المسلحة” الذي حددته منذ انطلاقتها، إعادة تأسيس مدرسة الوعي المقاوم، من خلال فهم لطبيعة المواجهة مع الاحتلال، والعبور بذلك إلى إعادة المقاومة المنظمة التي اختفت بالضفة الغربية بعد 2006، واقتصرت على العمليات الفردية غير المنظمة، وهو ما أعادها من جديد إلى قائمة الأهداف الإسرائيلية.