تُعرف “النيران الصديقة”، وكما يوحي الاسم، بأنها رمي بالأسلحة بين جند الجيش الواحد في خضم عمليات حربية بقصد إلحاق الأذى بالعدو، مما يتسبّب في سقوط عدد من الجرحى والقتلى في صفوف الجيش ذاته. منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين إلى اليوم لم تَخلُ مواجهة مع الاحتلال أو في إطار الأنشطة العسكرية الاعتيادية لقوات الاحتلال في المناطق الفلسطينية، من القتل أو الإصابة بنيرانٍ صديقة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، قُتل، وفق الرواية الإسرائيلية، في 11 حزيران/يونيو 1948، أثناء الحرب، اللواء ديفيد ماركوس بالقرب من بلدة أبو غوش في القدس، بنيران زميلٍ له أخطأ في تشخيصه. وفي 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، في حرب سيناء، أطلقت كتيبتان مدرّعتان من “جيش” الاحتلال الإسرائيلي النار على بعضهما البعض، فسقط العديد من القتلى من الكتيبتين.
كما قُتل في حرب تموز 2006 على لبنان أربعة جنود إسرائيليين وأصيب آخرون في سلسلة حوادث إطلاق نار من جانب القوات الإسرائيلية. وفي 15 آب/أغسطس 2022، قُتل الرقيب ناتان فيتوسي، وهو مقاتل في كتيبة نحشون كان في مهمة أمنية بالقرب من قرية شويكة في مدينة طولكرم، برصاص زميله في الوحدة، ظناً منه أنه فدائي فلسطيني… والقائمة تطول.
في الـ 12 من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وفي أول إعلان رسمي إسرائيلي منذ بداية الحرب الحالية الإسرائيلية على غزة، أعلن “الجيش” الإسرائيلي مقتل 20 جندياً من جنوده بنيران صديقة من إجمالي 105 قتلى، أي أنّ خُمس القتلى في حينه، وفق البيان المذكور، سقطوا بنيران زملائهم.
وبحسب “جيش” الاحتلال، فإن “حجم الضحايا مرتبط بكونه مسرح عمليات صغيراً ومزدحماً، حيث تعمل قوات كبيرة أمام عدو يهاجمهم فوق الأرض ومن تحتها، ومن الأمام والخلف، إضافة إلى الإرهاق ومشاكل القيادة والسيطرة والانضباط”. وبحسب معطيات “الجيش” كما نُشرت صباح يوم 12 كانون الأول/ديسمبر، “قُتل 13 جندياً إسرائيلياً بنيران صديقة نتيجة تشخيصهم خطأً على أنهم إرهابيون، كما قُتل البقية بغارات جوية ونيران دبابات وقوات مشاة أخرى”.
لا شكّ بأنّ ظاهرة “النيران الصديقة” تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من الحرب، وهي تحدث في كل الحملات العسكرية في العالم وليست حكراً على “الجيش” الإسرائيلي. ورغم محاولات قيادات “جيش” الاحتلال على مرّ السنين مكافحة حوادث من هذا النوع، بالاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة، إلا أنها لم تحقّق نجاحاً كبيراً يذكر، خاصة في خضمّ الحرب الحالية الدائرة على غزة.
قد يرى البعض في إعلان “الجيش” الإسرائيلي المذكور عن العدد الكبير من قتلاه بنيران صديقة، محاولة للتخفيف من مكاسب المقاومة الفلسطينية، لكن حديث النيران الصديقة لم يتوقّف بل تصاعد، وكانت ذروته مقتل الأسرى الإسرائيليين الثلاثة لدى المقاومة بنيران “الجيش” الإسرائيلي. وباعتقادنا فإن قتل الإسرائيلي للإسرائيلي حدث تاريخياً، ويحدث، في المواجهة العسكرية وفي غيرها، لثلاثة أسباب:
أولها، مرتبطٌ باستسهال القتل أو ما نسميه “اليد الرخوة على الزناد” حينما يتعلّق الأمر بحياة الفلسطينيين، خاصة في ظل سلوك الاستعلاء ومشاعر الغضب ورغبة الانتقام التي تُحرّك الشارع و”الجيش” الإسرائيلي في سلوكه المُنكّل بالفلسطينيين يومياً، أضف إلى ذلك الحماية والتغطية المطلقة التي يحظى بها مطلقو النار من مستويات سياسية، قضائية، وحاخامية دينية. لكن استسهال القتل هذا هو سيفٌ ذو حدين في واقع متداخل ومعقّد كالواقع الفلسطيني، خاصة في ذروة الأحداث الساخنة حيث الخوف والارباك هما سيّدا الموقف، وفي ظل عسكرة وتسليح المجتمع الإسرائيلي بشكل جنوني كما يفعل بن غفير حالياً.
ففي 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وأثناء تنفيذ فلسطينيين هجوماً فدائياً ضد عددٍ من المستوطنين في محطة للحافلات في مدينة القدس، أطلق جنديان النار على المستوطن يوفال كاستلمان، 38 عاماً، الذي قام بإطلاق النار على الفدائيين، معتقدين أنه أحد المنفّذين رغم أنه ألقى سلاحه ورفع يديه وجثى على الأرض وصاح باللغة العبرية. وأحدثت القضية جدلاً واسعاً، وما زالت، في المجتمع الإسرائيلي حول المسؤولية عن هذا “القتل السهل” رغم كل ما فعله المستوطن ليثبت أنه ليس عربياً…!
أما السبب الثاني الذي يقف خلف تزايد أعداد الجنود والإسرائيليين الذين يقتلون بنيران صديقة، فهو الخوف والإرباك وارتعاد اليد الناتج عن ضغط المعركة وهولها، فلا أقلّ، والجنود يحسبون كل صيحة عليهم، من أن يطلقوا النار على كل ما يتحرّك وفي كل الاتجاهات لحماية أنفسهم، التي باتت في مرمى نار المقاومة حيث لا يدرون من أن يأتيهم الموت، كما حدث في واقعة مقتل الأسرى الثلاثة في غزة بنيران زملائهم من الجنود الإسرائيليين، مع أنهم لم يشكّلوا خطراً على حياة الجنود وأظهروا إشارات الاستسلام، كما بيّنت تحقيقات “جيش” الاحتلال في الحادثة المذكورة.
وهذا يقودنا إلى الدافع الثالث، والأهم، الذي يقف خلف مقتل إسرائيليين بنيرانٍ إسرائيلية، والذي تحاول السلطات الإسرائيلية التستر عليه نظراً لما يسبّبه لها من حرج أمام جمهورها والعالم، وهو القتل المقصود أو الموجّه. تشير تقديرات “الجيش” الإسرائيلي إلى أن نسبةً كبيرة من الذين قتلوا يوم السبت 7 أكتوبر، من جنود ومدنيين، قتلوا بنيران القوات الإسرائيلية “بسبب خطأ في تحديد الهوية وسط الفوضى التي عمّت البلاد”.
إلا أن هذا القتل، بخلاف ما أوردت المصادر العسكرية الإسرائيلية، أتى تنفيذاً لما بات يعرف في “إسرائيل” بنظام هنيبعل، الذي تقوم فلسفته على أنّ “جندياً ميتاً أفضل من جندي مأسور”. وهو إجراء عسكري يُطبّقُه “جيش” الاحتلال الإسرائيلي ميدانياً في حال تَعرُّضِ أحد جنوده أو مواطنيه للأسر من قبل قواتٍ مُعادية، ويسمح باستخدام الأسلحة الثقيلة والقوة التدميرية لمنع الآسرين من مغادرة موقع الحدث حتى لو شكّل ذلك خطراً على حياة الجندي أو المواطن المخطوف ذاته.
فقد ورد ضمناً في التقارير عن المعارك التي دارت في مستوطنات غلاف غزة يوم 7 أكتوبر أن دبابة تابعة “للجيش” الإسرائيلي أطلقت النار على مبنى كان يوجد فيه، إضافة إلى المقاومين، مدنيون إسرائيليون، وهو ما وثّقته كاميرا طائرة شُرطية إسرائيلية كانت تُحلّق في سماء المنطقة لحظة إطلاق الدبابة نيرانها على المنزل المذكور. كما تضمّن مقال نشره جوش برينر في صحيفة “هآرتس” بتاريخ 18/11/2023 حقيقة مفادها “أن تحقيقات أمنية في أحداث الـ 7 من أكتوبر أظهرت أن مروحية قتالية تابعة “للجيش” الإسرائيلي وصلت إلى مكان الحادث من قاعدة رمات دافيد أطلقت النار على الإرهابيين وأصابت أيضاً، على ما يبدو، بعضاً من المحتفلين الذين كانوا هناك”…
كما أشار المقال إلى “أن مروحيات قتالية أطلقت النار على سيارات جيب تابعة لحماس كانت تنطلق في ذلك اليوم من أراضي “إسرائيل” باتجاه قطاع غزة، وكان فيها مختطفون، ثم عثر في اليوم التالي على جثث المختطفين في المنطقة المحيطة”، وتابع مؤكداً: “لقد ضربوا بشكل رئيسي إرهابيي حماس، وكذلك الرهائن الإسرائيليين”.
وقد سبق “للجيش” الإسرائيلي أن استخدم هذا الإجراء في محاولة إحباط عملية اختطاف الجندي الإسرائيلي هادار غولدين خلال علمية “الجُرف الصامد” في آب/أغسطس 2014، أو معركة رفح المعروفة بـ “الجمعة السوداء”، حيث أدى القصف المدفعي ونيران القوات الجوية الإسرائيلية إلى مقتل غولدن إضافة إلى ارتقاء عشرات الفلسطينيين شهداء في الحادث.
ولم يقتصر سلوك هذا “العقل المريض” الذي يُجيزُ قتل “النفس اليهودية” ليحرِمَ عدوه صورة النصر، وليمنعه لذة الانتصار وشعور التفوّق عليه، على إجراء هنيبعل، بل لعل شواهد التاريخ القريب تحمل ما هو أفظع تجاه الإسرائيليين لتحقيق مآرب سياسية ولو على حساب “الدم الإسرائيلي”.
فقد أثبت الأرشيف الإسرائيلي المفرج عنه أن بن غوريون تخلّى عن المهاجرين اليهود من المرضى وكبار السن في أوروبا، وفضّل عليهم الصغار المُنتجين مع بداية إقامة “الدولة” وتُرك الكبار والمرضى لمصيرهم في أوروبا.
وأكدت الأبحاث والتحقيقات أن الحركة الصهيونية زرعت قنابل وعبوات في متجار المواطنين اليهود في البلاد العربية وقتلت عدداً منهم لإقناعهم بأنهم غير آمنين في هذه البلاد لإرغامهم على الهجرة إلى فلسطين. الأمر ذاته فعله بن غوريون مع سفينة ألتيلينا، حين رست على سواحل فلسطين في الشهور الأولى من إقامة “دولة إسرائيل”، محمّلة بالأسلحة بخلاف رغبته، فقصفها وأغرقها وقتل من فيها من اليهود من عصابة الأتسل التي تزعّمها بيغن في حينه.
ستستمر “إسرائيل” في الحديث عن الوضع المعقّد في ساحة المعركة والفوضى العارمة، لتقول إن النيران الصديقة “وضحاياها” من الإسرائيليين أمر لا مفرّ منه؛ لكن الواقع أن هذه “اللعنة” التي تصاحب السلوك العسكري والسياسي الإسرائيلي ليست في جزء كبير من نتائجها إلا نتاج إرث مَرَضيّ متأصل في الوعي الإسرائيلي الأسطوري الذي ينطلق من قاعدة التفوّق العرقي والديني، وهو مذهبٌ يقلل من القيمة العليا لمبدأ الحياة ويذهب إلى التعامل مع النفس الإنسانية إلى أقصى حدود الجنون والاستعلاء، فليُقتل الإسرائيلي والفلسطيني في آن واحد، المهم أن تدحض “إسرائيل” بطولة الفلسطيني وتحرِمه لذة النصر.