“بزوغ الفجر” هو تعريب لمصطلح “علوت هشاحر” العبري، وهو الاسم الذي اختاره قادة الكيان الصهيوني لحربهم الأخيرة على قطاع غزة، واستهدافهم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ويُترجم أيضاً إلى “انبلاج الفجر”، وهو النور الذي يظهر في الأُفق قبل طلوع الشمس ويكون بعده النهار.
هذه المعركة كانت جولة أُخرى من الصراع المُسلّح بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية في غزة. وقد وضعها العدو في إطار العودة إلى مبدأ الضربة الاستباقية، وهي إحدى ركائز نظرية الأمن الإسرائيلية الهادفة إلى حفظ وجود الكيان الصهيوني وأمنه.
وانطلاقاً من هذين البُعدين (المصطلح والمعركة) لاسم المعركة وإطارها النظري، من المُفيد إلقاء الضوء على اسم المعركة كمصطلح توراتي وإطارها النظري كمعركة استباقية، ليكون هذا الفهم ضوءاً يُنير لنا طريق مقاومة العدو وهزيمته.
ورد مصطلح “بزوغ الفجر” في التوراة، سفر التكوين، في سياق سرد قصة مصارعة نبي الله يعقوب لرجلٍ في الليل من أتباع أخيه (عيسو)، بعد محاولاته العديدة تجنب الصراع مع أخيه، رغم الهدايا التي أرسلها إليه، واستمر الصراع حتى بزوغ الفجر في نص التوراة، “فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى بزوغ الفجر”، عندما استسلم الرجل وطلب من يعقوب أن يطلقه بقوله: “أطلقني لأن الفجر طلع”، فأطلقه وباركه الله بعد ذلك، وسماه “إسرائيل”.
دلالة المصطلح، وفق الرواية التوراتية، بعد إسقاطها على معركة “وحدة الساحات” أو “بزوغ الفجر” بالتسمية الإسرائيلية، أن لا مفر من المواجهة (المصارعة) مع غزة أو الجهاد الإسلامي، رغم التسهيلات (الهدايا) التي تقدمها “إسرائيل” لغزة، وأنَّ هذه المواجهة التي بدأت عصر يوم الجمعة ستكون قصيرة، وستنتهي بالنصر عند طلوع فجر يوم السبت أو يوم الأحد، وسيعقبها ضوء النهار (الخير) لـ”إسرائيل”، وهي المرحلة التي تنهي الظلام، وتبدأ معها مرحلة جديدة أساسها الوضوح، وكأنها عودة إلى المعارك الخاطفة السريعة ذات الحسم السريع الواضح.
الاسم التوراتي التاريخي لمعركة “بزوغ الفجر” منسجم مع كل أسماء حروب الكيان الصهيوني ومعاركه وعملياته العسكرية السابقة ذات الجذور الدينية التوراتية والتاريخية اليهودية، وخصوصاً ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ابتداءً من “الرصاص المصبوب” عام 2008، وانتهاءً بمعركة “بزوغ الفجر” الأخيرة، مروراً بمعركة “عمود السحاب”، و”الجرف الصامد”، و”الحزام الأسود”، و”حارس الأسوار”.
وقد فسّر الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه الظاهرة الإسرائيلية في كتابه “في الخطاب والمصطلح الصهيوني” تحت عنوان “سمات الخطاب الصهيوني المراوغ”، بقوله: “إنَّ استخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية تقع خارج إطار التاريخ، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر، وصعدوا إلى أرض كنعان، يصبحون نمطاً متكرراً يُطبّق على تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية في كل زمان ومكان، ومن ثم فالاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين هو أيضاً خروج من أرض المنفى وصعود إلى فلسطين…”، وهكذا صراع “إسرائيل” ضد عدوها (المقاومة) وانتصارها هو صراع متكرر لنبي الله يعقوب أو إسرائيل ضد عدوه الذي انتصر عليه عند بزوغ الفجر.
دلالة المصطلح الديني والتاريخي اليهودي لمعركة “بزوغ الفجر” أو إسقاطه على واقع الصراع للكيان الصهيوني في الزمن الحاضر ينسجم مع الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني القائمة على العنف وإدامة العدوان، كإفراز للمشروع الاستعماري الغربي المرتكز على العنف والعدوان، ومعركة “بزوغ الفجر” هي آخر حلقات هذا العنف في أعلى تجلياته وفق مفهوم “الضربة الاستباقية”؛ إحدى ركائز نظرية الأمن الإسرائيلية، وهي تأتي في إطار مفهوم “الحسم” كأحد رؤوس مثلث: الردع والإنذار والحسم، ويعني حسم الحرب بسرعة بالضربة الخاطفة المدمرة.
وهدف الضربة الاستباقية هو إحباط الخطر الوشيك واستعادة الردع، وهذا ما حدث – كما زعم قادة العدو – عندما بدأت المعركة بتوجيه ضربة استباقية ضد سرايا القدس، باغتيال القائد الشهيد تيسير الجعبري، وقصف خلية الدروع المُكلّفة بالهجوم، وجميع مراكز الرصد لسرايا القدس في الدقائق الأولى للمعركة.
الضربة الاستباقية في معركة “بزوغ الفجر” الإسرائيلية كان هدفها الأول، كما قال رئيس حكومة الكيان الصهيوني يائير لابيد، هو “إحباط دقيق لتهديد فوري”. وأعلن وزير حرب الكيان بيني غانتس تمسكه بنهج الضربة الاستباقية بقوله: “سوف نشن هجمات استباقية إذا دعت الضرورة لحماية مواطني إسرائيل وسيادتها وبنيتها التحتية”، وكل عمليات الاغتيال التي يسميها الكيان الصهيوني “القتل الوقائي”، والتي يمارسها داخل فلسطين وخارجها، مستهدِفاً محور المقاومة – قادتها وعلماءها – تُصنّف كنوع من الضربة الاستباقية، وفي إطار الحرب الوقائية بمفهوم العدو، والطبيعة الإرهابية للكيان الصهيوني القائمة على العنف وإدامة العدوان، والتي تجعلهم يقتلون عدوهم لمجرد حمل ثقافة المقاومة وتبني مشروع التحرير، حتى من دون الشروع في التخطيط والعمل.
هذا الأمر يفرض على المقاومة الفلسطينية وعمقها العربي والإسلامي وطليعته في محور المقاومة التسلّح بالوعي بعدونا وأنفسنا؛ الوعي بالجذور الدينية التوراتية والتاريخية اليهودية التي يستند إليها الكيان الصهيوني في تثبيت روايته المزوّرة للواقع، ليشحن مستوطنيه بمزيدٍ من الكراهية والعنف، وليبتز من العالم مزيداً من التعاطف والدعم.
وبالتالي، يجب مواجهة روايته المزوّرة بالرواية الفلسطينية الصحيحة بعمقها العربي والإسلامي والإنساني، وبجذورها الدينية والتاريخية الصادقة، وإسقاط مفاهيمنا ومصطلحاتنا الأصيلة على مفردات الصراع المتطورة على الأرض، لتُبطِل مفاهيم العدو ومصطلحاته، كي لا يطلع الفجر على “دولتهم” حتى زوالها.
ويجب أيضاً الوعي بالنظرية الأمنية للكيان الصهيوني، وفي مركزها الضربة الاستباقية القائمة على العنف وإدامة العدوان والقتل وتكرار القتل… وبالتالي يجب مواجهة نظريته الإرهابية بنظرية أمن فلسطينية هدفها حماية المقاومة الفلسطينية حتى إنجاز المشروع الوطني الفلسطيني بتحرير كل فلسطين، وحماية الشعب الفلسطيني ودعم صموده في أرضه.
في نظرية الأمن هذه، الشعب يحتضن المقاومة، والمقاومة تحمي الشعب… هي نظرية تزاوج بين مراكمة القوة ومشاغلة العدو، وتجمع بين إدامة الاشتباك مع الاحتلال وعدم استنزاف الشعب والحركة الوطنية والمقاومة؛ نظرية أمن تُفعّل أساليب الحذر من الضربة الاستباقية لتُبطلها وتُحبطها أو تستوعبها لترد الضربة للعدو ضربتين، وترد الصاع صاعين.