لم يكن العالم أكثر قربا من نشوب حرب نووية كما كان عليه الحال قبل 63 عاما بالضبط. في هذا اليوم بلغ التوتر بين واشنطن وموسكو حول كوبا أقصى مداه، وكادت نيران الجحيم أن تشتعل.
دخل يوم 27 أكتوبر 1962 التاريخ باسم “السبت الأسود”. كانت طائرات التجسس الأمريكية “يو – 2″ تراقب وقتها بانتظام ما يجري على أرض جزيرة الحرية الواقعة على مرمى حجر من السواحل الأمريكية، وكانت الصواريخ السوفيتية الباليستية قد وصلت الجزيرة فعلا ويجري العمل على تركيبها. جن جنون واشنطن برؤية ما يمكن تشبيهه بـ”خنجر” نووي تحت الأنف.
كثفت الولايات المتحدة في تلك الأيام رحلات طائرات التجسس “يو – 2” التي كانت تحلق على ارتفاعات شاهقة، وكان يعتقد أنها في أمان تام. كانت “يو – 2” تحلق في سماء كوبا ست مرات في اليوم.
في 27 أكتوبر 1962، انطلقت صواريخ الدفاع الجوي السوفيتية “إس – 75” من مرابضها في “جزيرة الحرية”، وأسقطت طائرة تجسس أمريكية طراز “يو – 2” انتهكت سماء كوبا.
أزمة الصواريخ الكوبية التي تسمى أحيانا أزمة الكاريبي تعود خلفياتها إلى شروع الولايات المتحدة في عام 1961 في نشر صواريخ “جوبيتر – 19” بمدى يصل إلى 2400 كيلو متر بالقرب من مدينة إزمير التركية. كان ذلك يشكل تهديدا للقسم الأوروبي من الاتحاد السوفيتي. الصواريخ الأمريكية يمكنها من هناك أن تصل إلى العديد من المناطق الاستراتيجية بما في ذلك موسكو في غضون 10 دقائق، ما يجعل من المتعذر على الاتحاد السوفيتي الرد بضربة مماثلة.
علاوة على ذلك، نشرت واشنطن صواريخ باليستية من نفس النوع في إيطاليا وصواريخ من طراز “ثور” في بريطانيا.
رد الاتحاد السوفيتي بعملية سرية أطلق عليها الاسم الرمزي “أنادير”، نُشرت خلالها وحدات عسكرية معززة بصواريخ باليستية تكتيكية “مزودة برؤوس نووية” من طرازي “أر – 12” و”أر- 14″، يبلغ مداها على التوالي 2000 و4000 كيلو متر.
طائرة التجسس الأمريكية “يو – 2” في ذلك اليوم كانت مكلفة بتصوير منشآت عسكرية في الجزيرة، وكان يقودها طيار خبير كان شارك في الحرب الكورية هو الرائد رودولف أندرسون ويبلغ من العمر 35 عاما.
المهمة لم تكتمل. تصدت لها في سماء شمال كوبا ثلاث صواريخ سوفيتية طراز “إس – 75” وأسقطتها من ارتفاع 21 كيلو مترا. قتل الطيار الأمريكي على الفور، وتناثر حطام الطائرة الأمريكية في حقل لقصب السكر.
حطام طائرة الرائد رودولف أندرسون يعرض حتى الآن في المتاحف الكوبية. يوجد المحرك وقسم من ذيل “يو – 2” في متحف الثورة في هافانا، فيما يُعرض الجناح الأيمن وقسم من الذيل ومعدات الهبوط الأمامية لهذه الطائرة في متحف الطيران في العاصمة هافانا.
الرئيس الأمريكي جون كينيدي بعث وقتها رسالة عزاء إلى أرملة الطيار الأمريكي قال فيها: “لقد صدمت بشدة من وفاة زوجك خلال رحلة يوم السبت 27 أكتوبر”، مشيرا إلى أن مقتله المأساوي كان باسم مهمة وطنية عاجلة. جثة أندرسون أعيدت بعد نهاية الأزمة الكاريبية، وجرى دفنه في 6 نوفمبر 1962.
إدارة كينيدي درست عدة ردود محتملة من بينها ضربة جوية شاملة فورية على كوبا، أو غزو الجزيرة، أو فرض حصار بحري. استقر الرئيس الأمريكي في ذلك الحين جون كينيدي في النهاية على خيار فرض “حجر بحري” على كوبا.
كان الوضع خطير للغاية. الكثير من المؤرخين العسكريين يؤكد أن العالم كان وقتها أقرب من حرب نووية مدمرة أكثر من أي وقت مضى. كان الخطر شديدا حتى أن العديد من الأمريكيين غادروا المدن الكبرى في تلك الأيام تخوفا من هجوم سوفيتي وشيك.
لحسن الحظ تم تجاوز الأزمة. في اليوم التالي بدأت مفاوضات سوفيتية أمريكية بمشاركة ممثلين عن كوبا والأمين العام للأمم المتحدة. وافق الاتحاد السوفيتي على إزالة الصواريخ السوفيتية من أراضي كوبا بشرط عدم اعتداء الولايات المتحدة على الجزيرة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. إضافة إلى ذلك تم الإعلان عن سحب الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى من تركيا وإيطاليا.
لم تكن طائرة “يو – 2” الأمريكية هذه الأولى التي أسقطها الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة، بل كان ترتيبها الثاني.
قبل ذلك أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة تجسس من نفس الطراز “يو – 2” في مايو 1960 بقيادة فرانسيس باورز. هذه الطائرة انتهكت المجال الجوي للبلاد، وأسقطت بصاروخ من نفس الطراز أيضا “إس – 75” فوق مقاطعة “سفيردلوفسك” الواقعة في منطقة الأورال الروسية.
قائد هذه الطائرة فرانسيس باور كان أكثر حظا من قائد طائرة التجسس فوق كوبا. تمكن باورز من القفز بالمظلة والهبوط على الأرض. اعتقل وحوكم ثم أعيد إلى بلاده في صفقة تبادل.