بقلم/ أحمد عبد الرحمن في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كانت “إسرائيل” تعيش أفضل فتراتها في ظلّ احتلالها الأراضي الفلسطينية، وكان الجيش الصهيوني والمستوطنون اليهود يسرحون ويمرحون في شوارع قطاع غزة وطرقاتها كأنهم في “تل أبيب” أو حيفا، ولم يكونوا يشعرون آنذاك بأي تهديد يُذكر، فالأوضاع الأمنية كانت هادئة، واستهداف جنود الاحتلال لم يكن شيئاً مألوفاً. في تلك الفترة، انشغل معظم سكان القطاع بالعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان الشكل العام يُوحي بأنَّ القضية الفلسطينية ومشروع التحرر الوطني دخلا في سباتٍ عميق من شبه المستحيل الاستيقاظ منه. فجأة، ومن دون مقدمات، أُلقيت عدة قنابل يدوية على سجن غزة المركزي أو ما كان يُعرف بسجن “السرايا”، أُصيب في إثرها عدد من الجنود الصهاينة. كان حدثاً مفاجئاً في توقيته وتفاصيله. حينها، اعتقد البعض أنه لن يتكرر، وأنه حدث عابر لن يترك أي تداعيات تُذكر، ولكن بعد أيام حدثت عملية أخرى في ميدان فلسطين “الساحة”، تبعتها عمليات طعن متلاحقة ضد الجنود والمستوطنين. هذا الأمر أشعل الضوء الأحمر داخل أروقة أجهزة المخابرات الصهيونية التي استنفرت كل قواها على الأرض، وجيّرت كل إمكانياتها التكنولوجية والتجسّسية للوقوف على حقيقة ما يحدث في شوارع القطاع. بعد أشهر من العمل، تواردت إلى مسامع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أنباء عن وقوف تنظيم فلسطيني صغير يُسمى “الجهاد الإسلامي” وراء تلك العمليات، وأن هذا التنظيم يختلف عن معظم الحركات والجماعات الموجودة في الساحة الفلسطينية، فهو يحمل عقيدة قتالية صلبة، وأتباعه لا يؤمنون سوى بخيار واحد للتعامل مع المحتل، هو القتال، وليس أي شيء آخر، وأنَّ فارق الإمكانيات الهائل لمصلحة العدو على كلّ الصعد لا يدفع هذا التنظيم إلى تأخير أو تأجيل سلسلة العمليات التي اتسعت واتخذت شكلاً أكثر تنظيماً وانضباطاً وتأثيراً. منذ تلك اللحظة التي ظهر فيها هذا التنظيم المقاتل الذي وصفه معظم المؤرخين المنصفين بالتنظيم العقائدي والعنيد في ساحة العمل الجهادي في فلسطين وحتى يومنا هذا، ما زالت حركة الجهاد الإسلامي تنتهج الأسلوب نفسه، وتحمل الأفكار نفسها، وترفع الشعارات نفسها. رغم اغتيال أمينها العام ومؤسّسها الأول الدكتور فتحي الشقاقي، ورحيل قائدها الثاني الدكتور رمضان شلح، ورغم اغتيال العدو المئات من خيرة قادتها ومقاتليها، وآخرهم القائدان خالد منصور وتيسير الجعبري ورفاقهما في معركة “وحدة الساحات” في آب/أغسطس الماضي، ورغم حملات التضييق والتشويه التي تعرضت لها، وما زالت، من القريب والبعيد، فإنها ما زالت تسلك الطريق الصعب نفسه، وتنادي بعالي الصوت أنَّ هذا العدو قاتل ومغتصب، وأنَّ المواجهة المباشرة معه بكل الوسائل هي الطريق الأقصر والأسلم والأكثر جدوى، وأنَّ البوصلة التي لا تشير إلى القدس هي بوصلة مشبوهة وخائنة، وأنّ أيّ سلاح لا يوجه إلى صدر العدو هو سلاح غير شرعي، وأن خيار الوحدة هو خيار استراتيجي لكل الأمة، وليس للشعب الفلسطيني فقط، وأن معركة التحرير الآتية لا محالة يجب أن يشارك فيها الجميع من دون النظر إلى لون أو عِرق أو طائفة. اليوم، وقد مر أكثر من 41 عاماً على تأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، نجد أنَّها ما زالت تقوم بالدور نفسه، وتمارس الخيارات نفسها، وتحمل على عاتقها تصويب البوصلة في الاتجاه الصحيح، بعدما حاول البعض حرفها هنا وهناك. اليوم، كأن التاريخ يُعيد نفسه من جديد، ولكن في جغرافيا أخرى من مساحة هذا الوطن العزيز. هذه البقعة الجغرافية هي الضفة الغربية المحتلة، التي دخلت نتيجة عوامل عديدة في سبات عميق منذ أواخر 2006 تقريباً، حينها توقفت العمليات التي كانت تنطلق من مدن الضفة إلى الداخل المحتل بشكل شبه نهائي، وتضاءلت عمليات إطلاق النار والمواجهات داخل مدن الضفة نفسها بشكل كبير، وأصبح دخول القوات الإسرائيلية إلى جنين ونابلس والخليل ورام الله كأنّه نزهة، وسيطرت حال من التسليم بالأمر الواقع الذي فرضته القبضة الأمنية للعدو والسلطة على حدٍّ سواء على المواطنين الفلسطينيين هناك، وتحول كثير ممن كانوا يحملون السلاح إبان انتفاضة الأقصى، وصولاً إلى ذروة العمليات البطولية حتى 2005 تقريباً، إلى موظفين في أجهزة السلطة، ومنهم من قام بتسليم سلاحه وتسوية أوضاعه للتكفير عن ماضيه النضالي والكفاحي. هذه الحال استمرت نحو 15 عاماً، باستثناء بعض العمليات الفردية، من طعن ودهس هنا وهناك، رداً على التغول الصهيوني ضد شعبنا في القدس والأقصى، أو تضامناً مع غزة في حروبها ضد المحتل المجرم. وهنا، اعتقد الكثيرون أنَّ هذه الأوضاع ستستمرّ إلى ما لا نهاية، وخصوصاً مع وجود السلطة التي يقف على رأسها قلّة من التجار والسماسرة الذين لا همّ لهم سوى زيادة ثرواتهم في بنوك سويسرا وأوروبا، وهم على استعداد للتنسيق مع الشيطان، وليس فقط مع “إسرائيل”، حتى يحافظوا على عروشهم وممالكهم الخاصة، ووصل بهم الأمر إلى سجن أو قتل كلّ من يفضحهم أو يكشف زيف مشروعهم. ولكنَّ مشيئة الله أرادت شيئاً آخر. لقد أرادت أن تجري الدماء الطاهرة من جديد في عروق هذا الجسد الفلسطيني المنهك والنازف. شباب صغار في مقتبل العمر يعيدون إلى المقاومة بريقها، وإلى السلاح طهارته، ويوجّهون البندقية إلى وجهتها الصّحيحة، فتبدأ الأرض تشتعل تحت أقدام الغزاة، وتتحول النزهة إلى خطر داهم على العدو وجنوده ومستوطنيه، وخصوصاً في مخيم جنين والقرى المحيطة به، ويبدأ العدو بإعادة حساباته من جديد، والبحث عبر عيون جواسيسه وأدواته التكنولوجية الحديثة عن السبب، وعن حقيقة ما يجري، فهل هي أعمال فردية وغير منظمة يقوم بها شبان غاضبون من الواقع الراهن أو أنَّ هناك شيئاً ما يجري خلف الكواليس! وكانت النتيجة أنَّ ذلك التنظيم العنيد الَّذي يُسمّى الجهاد الإسلامي هو الَّذي يقف خلف تلك العمليات، ولكنَّه هذه المرة ليس صغيراً ولا ضعيفاً، بل إنَّ عوده اشتدّ حتى بات عصيّاً على الانكسار، وأخذ على عاتقه التصدي لتوغّلات العدو ومهاجمة معسكراته وحواجزه، رغم قلّة الإمكانيات. تسارعت الأحداث بشكل دراماتيكي خلال عدة أشهر، فبعد “كتيبة جنين” التي أعلنتها “سرايا القدس” في أيلول/سبتمبر 2021، ظهرت كتائب أخرى مماثلة في نابلس وطولكرم وطوباس، وانضم إليها مقاتلون من بعض الفصائل الأخرى، ولا سيما كتائب شهداء الأقصى، في تطور عدَّه المحللون الصهاينة بالاستراتيجي، وعاد صوت الرصاص يُسمع عند كل اقتحام، ويسقط القتلى والجرحى في صفوف القوات الخاصة الصهيونية، حتى وصلنا اليوم إلى وضع يقول عنه قادة العدو إنَّه شديد التعقيد وبالغ الخطورة، ويمكن أن يؤدي إلى انفجار كل مدن الضفة في وجه العدو دفعةً واحدة. كل ذلك وتفاصيل أخرى لا يتسع المجال لذكرها جاءت نتيجة عمل دؤوب ومتواصل قامت به حركة الجهاد الإسلامي، كما تقول المصادر العسكرية الإسرائيلية. هذا الأمر هو الذي دفع قوات الاحتلال إلى شنّ حملة اعتقالات ممنهجة ضد كوادر الحركة ومناصريها في كل مدن الضفة، وشن عملية عسكرية مفاجئة أطلقت عليها اسم “بزوغ الفجر”، للقضاء، كما قالت، على الجهاد في غزة، لردعها كما يبدو عن مساعيها في إشعال ساحات الضفة الغربية. هذا العدوان الغاشم مُني بفشل ذريع، وخرجت منه حركة الجهاد، رغم التضحيات الجسام التي قدمتها، أكثر قوة وصلابة، وباتت محل ثقة الشعب الفلسطيني الَّذي وجد فيها الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأفعال، والثبات في وجه المصاعب والأهوال. اليوم، وكما كان الأمر قبل 41 عاماً، المطلوب هو رأس الجهاد الإسلامي، ورأس قادته داخل فلسطين وخارجها، وضرب حاضنته الشعبية التي تتوسع وتكبر، وتشويه فكره ومعتقداته وشعاراته! المطلوب هو أن ينصاع هذا التنظيم العنيد لما يريده المحتل وأعوانه، وأن يفعل كما يفعل الآخرون؛ أن يخفض رأسه خوفاً من العاصفة الهوجاء التي تضرب المنطقة والإقليم، وأن يتوقف عن القتال، ولو لفترة مؤقتة، حتى تُمرّر مشاريع الهزيمة وتُوقع صكوك الاستسلام. ولكن تاريخ هذه الحركة يقول إنَّ هذا لن يحدث، وإنَّ المسيرة التي عُمّدت بدماء الشهداء العِظام، وبأشلاء المقاتلين البواسل، لن تتوقف قبل أن تبلغ محطتها الأخيرة. وهذه المحطة ستكون من دون أدنى شك على أبواب القدس، وعلى عتبات مسجدها الأقصى المبارك .