تحتل البيئة في عصرنا الحاضر، مكانة لا تكاد تُدانيها مكانة، من حيث تأثيرها على صحة الفرد و المجتمع، اللهم إلا أنماط الحياة التي يعتنقها الإنسان والسلوكيات التي يتبعها في حياته.
ومن أجل ذلك اهتمت منظمة الصحة العالمية منذ تأسيسها بموضوع الصحة والبيئة، وأفردت له حيزاً كبيراً من اهتماماتها، وأنشأت له برنامجاً خاصاً يضم عديداً من كبار الخبراء في مختلفة جوانب هذا الميدان المهم من ميادين الصحة.
وليس يخفى أن البيئة التي احتضنت الإنسان يوم خلق في هذه الأرض، كانت بيئة حفية به، حانية عليه، رفيقة بصحته.. و ليس يخفى أن شرع الله الذي جاء لهداية الناس إلى خيرهم في دُنياهم وأُخراهم، يمثل خير ضامن لإحجام الناس عن تدمير بيئتهم، والإضرار البليغ بأنفسهم وبإخوانهم في الإنسانية بل وبأشكال الحياة كلها من حيوان ونبات وغير ذلك من الأحياء.
وحماية صحة البيئة تطبيق لقاعدة إسلامية رئيسية وهي أن كل مسلم مسئول عن سلامة جماعة المسلمين تطبيقا للقاعدة التي وضعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنها كالجسد الواحد، وأن من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وهذه الحماية تلزم المسلم ألا يكون مصدر ضرر للبيئة.
روى أبو داود حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : “اتقوا الملاعن الثلاثة. البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل “. وروى الترمذي-عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: “إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب، الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود “.
وقد دعا الإسلام إلى الوقاية من الأمراض الانتقالية بعزل المريض عن الأصحاء، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال. ” لا يوردن ممرض على مصح “.
الوقاية من الحوادث: وضع الإسلام القواعد الأساسية للوقاية من الحوادث قبل أن يظهر علم السعادة ويتبلور في إجراءات محددة في مجالات الصناعة وحوادث الطرق وحوادث المنازل. فالإسلام يكره التواكل ولكنه يأمر باتخاذ الأسباب الدنيوية ثم بعد ذلك بالتوكل على الله. يقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) (النساء : ا 7). وروى ابن حبان والطبراني أن أعرابيا سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : هل يترك ناقته دون أن يربطها توكلا على الله تعالى فقال له النبي عليه الصلاة والسلام. ” اعقلها وتوكل “.
وعلم السلامة يقوم على مبدأ أساسي وهو أن لكل حادثة سببا وبتجنب الأسباب يمكن تجنب الحوادث. روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال. ” لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون”.
كما يحرم النبي (صلى الله عليه وسلم ) تلويث الغذاء والماء بمفرغات البدن التي تحمل الجراثيم وتنقل العدوى، فيقول في الحديث الذي رواه، ابن ماجة عن أبي هريرة: ” لا يبولن أحدكم في الماء الراكد “،وقد ” نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أن يبول الرجل في مستحمة “( رواه الترمذي عن عبد الله بن مغفل )، وكان يقول:” اتقوا اللاعنين” قالوا: وما اللاعنان؟ قال: ” الذي يتخلي ( يتغوط ) في طريق الناس وفي ظلهم ” ( رواه مسلم عن أبي هريرة )، ويقو ل في الحديث الذي رواه أبو داو ود عن معاذ بن جبل: ” اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل “. ولا يخفى أن تلويث موارد المياه بالبراز وما يشتمل عليه من جراثيم، عامل أساسي في نقل الأمراض، بصورة مباشرة من خلال الماء الملوث، أو غير مباشرة من خلال تلوث الخضراوات والثمرات التي تسقى بهذا الماء. وفي ذكر الظل لمسة لطيفة، لان ما يكون في الظل لا تطهره الشمس، فيبقى مرتعاً خصباً للجراثيم ويعمل على تكثيرها .
الإعجاز في الأحاديث السابقة:
ومن مفاهيم الطب الوقائي في الطب النبوي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أمر بالوقاية من البلهارسيا قبل أن تعرف البشرية هذا المرض الخطير بمئات السنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه).
وفي، هذا الحديث حارب النبي صلى الله عليه وسلم البلهارسيا وغيرها من الأمراض ، ذلك أن الماء الراكد إذا بال فيه الإنسان وخاصة إذا كان مصابا بمرض ما ينقل العدوى إلى سواه. وفي قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) حكمة نبوية طبية جليلة القدر وهي أن الماء الجاري نقل فيه العدوى إن لم تنعدم .
دور الماء الملوث في نقل الأمراض:
كثيرة هي الأمراض التي تنتقل بالماء الملوث، ولاسيما تلك التي تسببها بعض الجراثيم أو الطفيليات التي يحتوي عليها براز الإنسان المريض أو بوله، وفي مقدمتها الحمى التيفودية ( التيفود ) وداء البلهارسيا المنشقات) وداء الديدان الشصية (الملقوات أو الانكيلوستوما) وسائر الديدان.
أما الحمى التيفية ( التيفود ) فتكون جراثيمها في أمعاء الإنسان ودمه وبوله. فاتصال بول المصاب بها أو اتصال برازه بالماء، يمكن أن يؤدي إلى نقل جراثيمهاإن كانت فيه. ولقد كان الماء من أهم وسائل نقل هذا المرض وانتشاره في الناس قبل اتخاذ الوسائل الحديثة لتطهيره ومراقبته في البلدان الراقية، ولكنه مازال عامل مهما في نقلها في البلدان النامية.
وأما مرض البلهارسيا ( أو داء المنشقات،، فهو مرض يتصف بالتهاب في المثانة (يتجلى بتبول الدم) أو التهاب قي القولون (يتجلى بالزحار ( الدوسنطاريا،). وتنطرح بيوض الطفيلي مع البول في النوع الأول، ومع البراز في النوع الثاني. حتى إذا ما بلغت الماء، ولاسيما الماء الراكد القليل الحركة، فإنها تنفقس عن يرقة صغيرة، لا تلبث أن تدخل أحد أنواع الحلزون أو في ذوات القواقع، حيث تتخلق فيه خلقاً من بعد خلق، حتى تتحول إلى يرقة ذات ذنب، تدعى الذانبة ( سركاريا). وهذه الذوانب تسبح في الماء، حتى تصادف إنساناً يغتسل في الماء، أو يسبح فيه، أو يغسل فيه ثيابه، أو يشرب منه، أو يخوض في ماء الري، وإذ ذاك تخترق بشرة الجلد، بأن تدس نهايتها الأمامية في الجلد وتستغني عن ذيلها.
وفي غضون أربع وعشرين ساعة، تكون الذوانب قد وصلت إلى الدم، فتجول في الدوران الدموي، ثم ينتهى بها المطاف إلى داخل الكبد، حيث تكبر وتبلغ وتتزاوج، ثم تهاجر إلى جدران المثانة أو الأمعاء لتبيض.
وواضح أن السبب في استمرار هذه الدورة الموذية، هو مواصلة التبول أو التغوط بشكلٍ يصل معه البول أو البراز إلى المياه السطحية، ولا سيما المياه الراكدة، وأن الوقاية تكون بالامتناع عن هذا الفعل الذميم، الذي نهت عنه الشريعة الإسلامية نهيا واضحا صريحا.
وأما الديدان الشصية فهي ديدان تكون في الأمعاء، وتحدث في المصاب بها الماً بطنيا موجعاً. وبعد مدة يظهر فقر الدم الشديد، وتصير الأغشية المخاطية كلها شاحبة جدا، وينتفخ الوجه وتتورم الرجلان وقد يظهر في المريض استسقاء، أي تراكم السوائل في أنسجته وأجوافه (جوف البطن مثلا). وإذا لم يعالج المرض ، فيعم الاستسقاء جميع الأطراف، أو ينحل المريض ويهزل جدا حتى تبدو عظامه، ولكنه على كل حال يبقى منتفخ البطن بالسوائل، حتى يموت.
وبيض هذه الديدان التي تنطرح مع البراز، وتفقس عن يرقاتها إذا وجدت تربة رطبة، كأرض الحقول أو المزارع أو المناجم، فإذا لامسها إنسان نفذت من جلده مباشرة ، وتابعت مسيرتها فيه حتى تبلغ الدم، ثم تصل بالدوران إلى الكبد ثم الرئة ثم الأمعاء. وأكثر من يتعرض لعدواها الزراع وعمال المناجم، ولكنها ا، كذلك تهاجم الأطفال الذين يخوضون فى الوحل الموبوء بها حفاة فيصابون بها. وواضح أن الوقاية منها تقوم على الحيلولة دون وصول شىء من الغائط إلى سطح الأرض ولاسيما في الظل ، إذ يحافظ الظل على الرطوبة اللازمة لحياة اليرقات، ويحفظها من التأثير المطهر الذي تتصف به أشعة الشمس. يتبين مما تقدم، أن وقاية الماء من التلوث ونقل “عدوى الأمراض الآنفة الذكر تتلخص في أمرين اثنين:
(1) منع وصول جراثيم هذه الأمراض وطفيلياتها إلى الماء أو التربة الرطبة.
(2) عدم تعريض الإنسان نفسه إلى عدواها بنزوله في الماء الذي يحتمل أن يحتوي عليها، وهو على الخصوص الماء الراكد القليل الحركة.
وهذا هو بالضبط ما ورد في الهدي النبوي من ضوابط. فقد وردت الأحاديث الصحيحة التالية عن النبي (صلى الله عليه وسلم):
1- ” لايبولن أحدكم في الماء الراكد ” (رواه ابن ماجة)
2 ــ ” نهى رسول (صلى الله عليه وسلم ) أن يبول الرجل في مستحمه” (رواه أبو داوود). ( رواه أبو داوود )
3ــ ” لا تبل في الماء الدائم ( أي الراكد ) الذي لا يجرى ثم تغتسل منه ” (رواه مسلم)
4 ــ ” لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم ( أي الراكد ) وهو جنب ” (رواه مسلم) .
5- ” اتقوا اللاعنين (أي الأمرين الجالبين اللعنة لفاعلهما ) قالوا: وما اللاعنان ؟ قال: الذي يتخلى ( تغوط )، في طريق الناس وفي ظلهم ” (رواه مسلم) .
6- ” اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل ” (رواه أبو داوود)
ففي هذه الأحاديث تحريم التبول التغوط في الموارد، وهي جميع المصادر التي يستقى منها الماء الحديث السادس، مع تخصيص للماء الراكد، الذي رأينا أنه أنسب المياه لنمو الطفيليات (الأحاديث الأول والثالث والرابع). وفيها النهي عن أن يبول الرجل في مستحمه ، أي الماء الذي يستحم فيه (الحديث الثاني). وهذا من جهة لفت نظر للمرء إلى أن هذا الماء الذي يبول فيه الآن قد يستحم فيه فيما بعد ، وهي وسيلة تربوية لجعله يستنكر ذلك ؛ ومن جهة أخرى وقاية للآخرين ، لأن التبول في هذه المياه الراكدة الساكنة التي يستحم الناس فيها عادة (ومنها الترع والمسابح) مدعاة لعدوى الأمراض. وفي هذه الأحاديث أيضاً النهي عن التغوط في الظل. وفي هذا بالإضافة للناحية الاجتماعية التي تقبح أمكنة اعتاد الناس أن يستريحوا فيها، إشارة مهمة إلى الناحية الصحية، لأن أماكن الظل لا تتعرض إلى أشعة الشمس القوية بما فيها من خصائص قاتلة للجراثيم. وقد تقدم أن الظل يحافظ على، الرطوبة اللازمة لحياة يرقات الدودة الشخصية . ويقاس على البول والبراز كل ما يتلوث به الماء، ويصيب الإنسان في صحته، كإلقاء فضلات المصانع، والحيوانات النافقة، والقمامة، في الأنهار والترع والمصارف، وكذلك غسل الملابس الملوثة بالجراثيم في مياهها، وكل ما يؤدي إلى إفساد البيئة، وإهلاك ما فيها من حيوان أو نبات. فقد قال الله عز وجل: ” وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ” (الأعراف 85) ، وذم سبحانه كل شخص” وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ” (البقرة: 205).
ويتمثل حرص الإسلام في المحافظة على نقاء الماء في قوله (صلى الله عليه وسلم ) :.” إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده ” (رواه مسلم).
وجاء أيضا في الإرشادات النبوية، التحذير من ترك أواني الطعام والشراب مكشوفة، كحديث عائشة: ” كنت أصنع لرسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة آنية من الليل مخمرة( أي مغطاة ) : إناء لطهوره ، وإناء لسواكه، وإناء لشرابه “وحديث جابر ” أمرنا النبي (صلى الله عليه وسلم ) أن نوكيء ( نربط فوهة ) أسقيتنا ونغطي آنيتنا ” (رواه ابن ماجة).وفي ذلك حفظ للطعام والشراب من سقوط الحشرات المؤذية التي تنقل جراثيم المرض، وهذا من أهم سبل الوقاية والتحفظ من الأمراض وأسبابها.
وهذا النهي عن تلويث الموارد والطرق جزء من توجيهات الإسلام للحفاظ على صحة البيئة. ويقابل ذلك أمر إيجابي بتنظيفها. فقد قال (صلى الله عليه وسلم ) ” إماطة ( أي إزالة) الأذى عن الطريق صدقة ” (رواه أبو داود عن أبي ذر )،و قال: ” عرضت على أعمال أمتي: حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها : الأذى يماط عن الطريق.. ” ( رواه مسلم وابن ماجة عن أبي ذر )وقال: ” الإيمان بضع وسبعون شعبة…. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ” ( رواه مسلم عن أبي هريرة) .
ولقد حذر الله سبحانه في مواضع متعددة من كتابه الكريم من الفساد في الأرض.. والفساد البيئي جزء من هذا الفساد في الأرض بل هو أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المقام. فقد قال عز من قائل: ” كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ” ( ( البقرة: 60)وقال جل شأنه:” ولا تفسدوا في الأرض “(الأعراف: ه 8) وقال سبحانه: وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” ( القصص: 77). وقد نهى كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقوامهم عن الفساد في الأرض .
بل قد خص الله بالذكر ذلك النوع من الفساد الذي يستأصل النبات والحيوان فقال: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ” البقرة: 205 ).
قال الإمام ابن حزم في المحلى محتجاً بهذه الآية: ” فمنع الحيوان ما لا معاش له إلا به من علف أو رعي، وترك سقي شجر الثمر والزرع حتى يهلكا، هو بنص كلام الله تعالى فساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل، والله تعالى لا يحب هذا العمل “.
وقد حرص النبي (صلى الله عليه وسلم ) على تشجيع الزراعة بما يزيد الثروة النباتية ويضيف إلى البيئة الصالحة فقالت:” لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة “( رواه مسلم عن جابر)، وقال: ” من أحيا أرضاً ميتة فهي له ” ( رواه الترمذى عن جابر وقال حديث حسن صحيح ). ونهى في مقابل ذلك نهياً شديداً عن قطع الشجر فقال: ” من قطع سدرة ( يعني دون مبرر ) صوب الله رأسه في النار ! ” ( رواه أبو داود عن عبد الله بن حبشي ).
وكان النبي (صلى الله عليه وسلم ) أول من أنشأ محميات بيئية لا يجوز قطع شجرها ولا قتل حيوانها. فقد ” حمى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كل ناحية من المدينة بريداً بريداً (والبريد اثنا عشر ميلاً ): لا يخبط ( ينزع) شجره، ولا يعضد ( يقطع )،إلا ما يساق به الجمل “(رواه أبو داود عن عدي، بن زيد ). وكان النبي (صلى الله عليه وسلم ) ” ينهي، أن يقطع من شجرة المدينة شيء ” ( رواه أبو داود عن سعد بن أبي وقاص )، وقال عن المدينة ” لا ينفر صيدها.. ولا يصلح أن يقطع منها شجرة، إلا أن يعلف الرجل بعيره “(رواه أبو داود عن علي)؛ وقال (صلى الله عليه وسلم ) : ” إني أحرم ما بين لا بتى المدينة: أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها “( رواه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص) ” ؛ وقال عن واد بالطائف : ” إن صيده و عضاهه حرام “( رواه الإمام أحمد وأبو داو ود عن الزبير ) . ولا يخفى ما للتشجير والخضرة من آثار هامة لحفظ التوازن البيئى وتوفير المناخ الملائم للحياة حيث تقوم النباتات بعملية التمثيل الضوئى فتوفر الأكسيجين اللازم لتنفس الإنسان والحيوان وتخلص البيئة من ثانى أكسيد الكربون فتأمل الإعجاز فى ذلك!
الاهتمام باستزراع النباتات وحمايتها لم يكن وليد العصر ، ولا من محدثات الزمن ، بل دعا اليه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً فقد كان الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم يرغب أصحابه ويدعوهم إلى استزراع النباتات وحمايتها والمحافظة عليها من أحاديث الرسول في هذا المجال ” ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرا أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ( رواه مسلم والبخاري والترمذي ) ” من أحيا أرضاً وعرة من المصر أو ميته من المصر فهي له ( رواه أحمد فى سنده ) ( ما من إمريء يحيي أرضاً فيشرب منه كبد حراء وتصيب منها عافية إلا كتب الله به أحراً ) ( رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير ) ( أشهد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله فمن أحيا موتها فهو أحق به )( رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه ومالك في الموطأ )( إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها )( رواه مسلم ) صدق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
وكانت الأوامر تصدر صريحة إلى قواد المسلمين تنهاهم عن قطع الأشجار أو تدميرها وضرورة المحافظة عليها كما أعطي الإسلام لولي الأمر الحق فى إقامة الحمي ” المحميات الحيوية ) إذا كان ذلك فى صالح المسلمين ، وقد ادرك العالم الغربي فى السبعينات من القرن العشرين أهمية المحمية الحيوية فى حماية البيئة الحيوية ، وهي الدعوة التى تبناها الإسلام منذ اربعة عشر قرنا ً . هذه الاحاديث النبوية الشريفة دعوة صريحة تربي فينا السلوكيات البيئية الإيجابية نحو التخضير ونشر الخضرة فى كل مكان. مما يجدر ذكره أن حسن استخدام الطريق ومنع الأذي والضرر عنه قد كفله الإسلام وشدد عليه ورغب فيه انطلاقاً من أحاديث الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ” إماطة الأذي عن الطريق صدقة “( متفق عليه )من أذي المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم )( رواه الطبراني بإسناد حسن )( الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبه أدناها إماطة الأذى عن الطريق ) ( متفق عليه ) (من أماط أذي عن طريق المسلمين كتبت له حسنة ) ( رواه البخاري والطبراني )( إن المؤمن ليؤجر فى إماطة الأذى عن الطريق)( رواه الترمذي ) من هذه الأحاديث النبوية الشريفة يتضح لنا أن إماطة الأذى بكل أشكاله المادية والمعنوية عن الطريق عبادة وفرض عين على كل مسلم فالأذى هنا يشمل كل ما يضر بالطريق ويشوه جماله ونظافته أو يتسبب في وقوع حوادث الطرق أو الإرباك المروري أو غيرها من الأضرار التى تلحق بالطريق ومستخدميه فمثلاً إلقاء الزجاجات الفارغة والمخلفات من أوراق وغيرها في الطريق يعتبر نوعاً من الأذى إشغال أرصفه الطرقات ، وهي المخصصة للمشاة بما يحول دون استخدامها فيه أذي وضرر لأن هذا الأمر قد يجبر المشاة أن يسيروا في عرض الطريق مما يعرضهم للحوادث كما أن عدم الالتزام بتعاليم وقواعد المرور مما يتسبب في وقوع حوادث مرورية يتأثر بها أناس أبرياء يعتبر أذى فالسائق الذي يسير بسرعة جنونية غير عابئاً بما تحدثه هذه السرعة من وقوع حوادث ، كثيرا ما تكون مميته ، يرتكب مخالفة قانونية وشرعية في حق نفسه وحق الآخرين فالسرعة الجنونية دعوة للتهلكة والله ينهانا عن إلقاء أنفسنا فى التهلكة يقول الحق تبارك وتعالى : ” وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ” ( البقرة : 195 )كما أن هذه السرعة الجنونية فيها إسراف شديد على النفس حيث يسيء استخدام نفسه والسيارة التى يمتلكها معاً ويقتضي واجب الملكية فى الإسلام كما سبق أن بينا حسن استخدامها وصيانتها وصلاحها كما يدعونا الإسلام إلى الاعتدال فى السرعة يقول الحق تبارك وتعالى : ” وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ” لقمان: 19 )
فالاعتدال فى السرعة هو حد الإسلام ، حد الاتزان وهو الحد الذي ستؤجر عليه لأنك بذلك تميط أذي عن الطريق بسرعتك المعتدلة المعقولة كما أن الاضرار بالطريق والتسبب فى الحوادث يتنافى ولاشك مع القاعدة الفقهية الإسلامية ” لا ضرر ولا ضرار” فالطريق ليس ملكاً لك تعبث فيه كيفما تشاء ومن رحمة الله عليك أنك ستؤجر فى إماطة الأذى عن الطريق وتنجو من عقاب الله سبحانه وتعالى الذي توعد به المفسدين والمسرفين فى الأرض فهل نعقل ونتبع طريق النجاة فى الدنيا والآخرة ، وهل نحسن استخدام الطرق وأن نمتنع عن كل شكل من أشكال الأذى بها كما أمرنا الله سبحانه وتعالى . ومن وسائل حفظ الصحة وتعزيزها بالمحافظة على هذه النعمة ، إعطاء كل عضو حقه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم :” وإن لعينيك عليك حقاً “(متفق عليه عن عبد الله بن عمرو )، وعدم تكليف الإنسان نفسه ما لا يطيق لقوله (صلى الله عليه وسلم ): ” عليكم ، بما تطيقون ” ( متفق عليه عن، عائشة ) . كما أن من وسائل حفظ الصحة وتعزيزها ، كذلك، تقوية الجسم ولاسيما بالرياضات المناسبة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم):” المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف “(رواه مسلم عن أبي هريرة ) وقال: ” وإن لجسدك عليك حقاً ” (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو ) وقال: ” احرص على ما ينفعك “( رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة ) . وأخيراً ففي مقابل كل ما تقدم من سبل حفظ الصحة و. تعزيزها، تحذير شديد من أي تبديل أو تغيير على هذه النعمة لأن الإنسان سيدفع الثمن غالياً. ولا أدل على ذلك من الحديث التالي: “ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا “رواه ابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمر ). وقد حرم الله الفواحش أياً كان نوعها تحريماً قاطعاً فقال جل شأنه:” وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ”(الأنعام: 151) وقال سبحانه: ” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ” ( الأعراف: 33)
لا ضرر ولا ضرار:
هذه العبارة الجامعة الفذة حديث شريف رواه الدار قطني عن أبي سعيد الخدرى ، وقال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وهي مؤكدة بصيغ أخرى كقولة صلى الله عليه وسلم: ” ملعون من ضار مؤمناً أو مكر به ” ( رواه الترمذي عن أبي بكر وقال حديث غريب ) ، وقولة : ” من ضار أضر الله به “( رواه ابن ماجة وأبو داود عن أبي صرامة ) ، أو قوله:” من، ضار مؤمناً ضار الله به “( رواه الترمذي عن أبي صرامة وقال حديث حسن غريب ) .
ولعل أجمل ما ورد في تعريف الضرر والضرار، ما ذكره السيد رشيد رضا رحمة الله في تفسير سورة المائدة: ” أي: رفع الضرر الفردي والمشترك ” ومنه أخذت قاعدة دفع المفاسد وحفظ المصالح مع مراعاة ما علم من نصوص الشارع ومقاصده.
وقد جاء تحريم الضرر في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى سورة الأعراف (33) ” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ ” وقوله في سورة الأنعام (120)” وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَه “ُ مع قوله سبحانه في سورة البقرة (219 ) عن الخمر والميسر: ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ” فجعل الإثم نقيض النفع فهو الضرر إذن، وهو- كما نرى- محرم بنص القرآن، لا يحل للمسلم أن يضر بنفسه أو يضار بغيره. وذلك في كتاب الله كثير .
فلننظر الآن كيف يتجلى هذا المبدأ في شؤون الصحة :
ا- الإضرار بالنفس :
وهذا محرم لقوله عز وجل: ” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ “( النساء: 29) وقوله سبحانه: ” وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة “( البقرة : 195 ) وقوله (صلى الله عليه وسلم ) ” لا ضرر”.فلا يجوز للمسلم أن يعرض نفسه لخطر المرض أو الإصابات بأي شكل من الأشكال لقوله-(صلى الله عليه وسلم ): ” لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه “قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: “يتعرض من البلاء لما. لا يطيقه ” (رواه ابن ماجة وأحمد عن حذيفة، والترمذي وقال: حديث حسن غريب). ويكون تعرض المرء للأمراض، والإصابات بتعرضه لأسبابها، أو تهاونه في عدم اتقائها، أو تهاونه في حفظ صحته عليه. وقد وجه الإسلام إلى السبيل القويم في ذلك كله، فأوجب على المسلم:. أن يحرص على ما ينفعه من سبل الحياة الصحية كالتغذية بالغذاء الحسن والاعتدال فيه وفي المشرب، واتخاذ بعض الرياضات التي تحفظ عليه سلامة أعضائه وما إلى ذلك؛ وأن يقدم لجسده كله ولكل عضو من أعضائه حقه من الرعاية والإراحة والعناية، لقوله صلى الله عليه وسلم” احرص على، ما ينفعك ” ( رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة)، ولحديث: ” وخذ من صحتك لمرضك “( عزاه البخاري لابن عمر )، ولقوله (صلى الله عليه وسلم ) : ” ما أطعمت نفسك لك صدقة ” ( رواه البخاري في الأدب المفرد عن المقدام بن معد يكرب) وقوله: ” إن لنفسك عليك حقاً “(رواه البخاري عن وهب بن عبد الله)، وقوله: ” إن لجسدك عليك حقاً .. وإن لعينيك عليك حقاً… “( متفق عليه عن عبد الله بن عمرو ) . . أن يتخذ كل أسباب الوقاية من الأمراض لأن التوقي يكفل الوقاية. فقد قال (صلى الله عليه وسلم ) : ” ومن يتوق الشر يوقه ” ( أخرجه الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة). ويدخل في ذلك البعد عن مصادر المرض كاجتناب مقارفة الزنى واللواط وسائر الفواحش لقوله تعالى: ” وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً “( سورة الإسراء : 32 )، وقوله “وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ “( الأنعام: 151) وقوله سبحانه: ” وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ *إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ” (الأعراف : 80 ـ 81 )، وقوله النبي (صلى الله عليه وسلم )” إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط “( رواه ابن ماجة والبيهقي عن جابر ابن عبد الله ). كما يدخل في الوقاية البعد عن مصادر الإثم، لقوله سبحانه:” وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ “( الأنعام: 120 ) والإثم- كما يقول السيد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره- ” كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما، وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية “. ومن الإثم المسكرات والمخدرات وكل ما يخامر العقل ؛ ” وقد قال ربنا سبحانه:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ” ( البقرة: 219)، وقال جل جلاله: ” إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ” ( المائدة: 90) والاجتناب أعلى درجات التحريم. وقد ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر “( رواه أحمد وأبو داو ود عن أم سلمة )، وقال (صلى الله عليه وسلم ) :” ألا إن كل مسكر حرام، وكل مخدر حرام، وما أسكر كثيرة حرم قليلة ، وما خمر العقل فهو حرام ” ( رواه أبو نعيم عن أنس بن حذيفة ). ويدخل في التوقي كذلك عدم التعرض للمصابين بالأمراض المعدية. كما يدخل في ذلك التطعيم لتوقى كثير من الأمراض المعدية.
. أن يتخذ كل أسباب الوقاية من الإصابات. والأصل في ذلك ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) ” إذا غرستم ( أي نزلتم للنوم بالليل) فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل “( رواه مسلم عن أبي هريرة)، وقوله(صلى الله عليه وسلم ): “إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ريما ما خلفه عليه ” ( متفق عليه عن أبي هريرة)، وقوله صلى الله عليه وسلم : “أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلقوا الأبواب، وأوكوا( أي اربطوا أفواه) الأسقية، وخمروا ( أي غطوا) الطعام والشراب “( رواه البخاري عن جابر)، وقوله: ” إن هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ” ( متفق عليه عن أبي موسى). وقوله: ” من بات على ظهر بيت ليس له حجار( أي جدار)فقد برئت منه الذمة ” ( رواه أبو داو ود عن علي ابن شيبان ). وقد “نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحدة أو يسافر وحده “( رواه الإمام أحمد عن ابن عمر، وسنده صحيح على شرط البخاري) .
. أن يتداوى إذا أصيب بالمرض لقوله (صلى الله عليه وسلم ) : ” تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء “( رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسامة بن شريك، ) .
2- الإضرار بأفراد الأسرة:
الوالدين والولد والزوج والزوجة.. فهذا أيضاً محرم داخل في حكم الضرارفقد أوصى الإسلام الإنسان بوالديه فقال سبحانه: ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا …” ( العنكبوت: 8) وقالت عز من قائل:” وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا “ ( النساء: 36)، وكان رسول الله : (صلى الله عليه وسلم ) ” ينهى عن منع وهات وعقوق الأمهات وعن وأد البنات “( رواه البخاري في الأدب المفرد عن المغيرة بن شعبة)، وروي عنه أنه قال:” ملعون من عق والديه “،وأي عقوق أسوأ من أن يفرط في صحتهما التي تحفظ عليهما نفسيهما. كذلك أوصى الإسلام الوالدين بالولد، وأوصى كلاً من الزوجين بالآخر وعلى الأخص الزوج بزوجته، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): ” استوصوا بالنساء خيراً ” ( متفق عليه عن أبي هريرة كما رواه الترمذي عن عمرو بن الأحوص الجشمي في حجة الوداع وقال حديث حسن صحيح ) وقال:” اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة “( حديث حسن رواه النسائي بإسناد جيد عن أبي شريح، خويلد بن عمرو الخزاعي ) وقال (صلى الله عليه وسلم ): “… وإن لزوجك عليك حقاً.. وإن لولدك عليك حقاً.. فآت كل ذي حق حقه”(متفق عليه عن عبد الله بن عمرو ) ، وقال (صلى الله عليه وسلم ): ” وإن لأهلك عليك حقاً”( رواه البخاري عن وهب بن عبد الله )، وقال: ” والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم “( متفق عليه عن عبد الله بن. عمر ) .
فالتفريط في حق الوالد أو الزوجة أو الزوج أو الولد، وفي حفظ صحتهم عليهم ووقايتهم من الأمراض.. حرام، لقوله عز وجل:” وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ” ( النساء: 29)وقوله سبحانه: ” وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ” ( البقرة : 195 )وقوله جل شأنه: ” قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ” ( الأنعام: 140 )، وقوله عز من قائل: ” لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ” ( البقرة: 233 )قال الإمام ابن حزم رحمه الله في التعليق على هذه الآية:” والذي منع أبواه من المضارة به هو الولد بلا شك ” ( المحلى: 10 / 107 ) وقوله سبحانه:” وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ” ( الطلاق: 6) قال ابن منظور في التعليق على هذه الآية: ” وحق كل منهما- أي الوالدين- أن يأتمر في الولد بمعروف ” ومعنى ذلك أن يتشاور الوالدان للتوصل إلى ما فيه مصلحة الولد. ومن ذلك أيضاً قول النبي (صلى الله عليه وسلم ) :” كفى بالمرء إثماً أن يضيع من بقوت “( حديث صحيح رواه أبو داود: وغيره عبد الله بن عمرو )، وقوله:”ليس منا من لم يرحم صغيرنا “( رواه البخاري في الأدب المفرد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ) . ومن أظهر مظاهر الرحمة حفظ صحته ووقايته من الأمراض. ومن أهم سبل حفظ صحة الطفل الحرص على إرضاعه من الثدي في العامين الأولين من عمره، فذلك يزوده بالتغذية الفضلى، وبالأجسام المناعية المضادة التي تنتقل إليه من ألام في لبنها، ويحافظ على صحته وصحة أمه بالمباعدة بين الأحمال ، لان الرضاعة تمنع الحمل في الغالب. وقد قال ربنا عز وجل: “وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ” ( البقرة: 233)، وقال سبحانه: ” وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ” ( ( لقمان : 14 ) .وقد كان من أهم عناصر البيعة التي يأخذها النبي (صلى الله عليه وسلم ) من النساء جميعاً أن “وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ” ( الممتحنة: 12) .
فالواجب على المرء إذن في حق أفراد أسرته:
.أن يتخذ كل أسباب وقايتهم من الأمراض، ويدخل في ذلك إبعادهم عن مصادر العدوى، كما يدخل فيه وجوب تطعيمهم بحسب اللزوم لتوقى كثير من الأمراض المعدية فلو فرط الأب أو الأم مثلاً في تطعيم ولدهما، فإنهما يعرضانه للضرر وقد نهاهما الله عز وجل عن ذلك، وقد يؤدي تصرف كهذا منهما مردة إلى الجهل والسفه إلى تعريضه للتهلكة وتعريضهما للخسران لقوله سبحانه ” قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ” (الأنعام: 140).
. أن يحرص على ما ينفعهم من سبل الحياة الصحية كتغذيتهم بالغذاء الحسن وحثهم على الاعتدال! فيه، وجعلهم يتخذون بعض الرياضات التي تحفظ عليهم صحته وأن يداويهم إذا تعرضوا للمرض.
وليس يخفى أن من أهم المخاطر التي يتعرض إليها الولد الأعزل الغر، أن يكون أحد أبوبه أو كلاهما مدخناً، فيفسرانه على استنشاق أدخنه السجائر، ويعرضانه إلى الإصابة بمختلف الأمراض التي قد تنشأ عن ذلك. وواضح أن في ذلك حرمة مضاعفة، لما فيه من تفريط بحق الوقاية، وإكراه على التعريض للخطر وهو صغير لا حول له ولا قوة.
3- الإضرار بالناس جميعاً:
ولاسيما بالجار. وهذا محرم لقوله (صلى الله عليه وسلم ) :” لاضرر ولا ضرار “وقوله صلى الله عليه وسلم: ” من ضار أضر الله به ” ( رواه ابن ماجة وأبو داو ود عن أبي صرمة ) وقوله:” والله لا يؤمن ” قالوا: ” من هو يا رسول الله خاب وخسر ” قال: ” من لا يأمن جارة بوائقه ” ( متفق عليه عن أبي هريرة ). قال الإمام ابن تيميه في فتاويه (1 / 327 ) : ” فإذا كان هذا بمجرد الخوف من بوائقه، فكيف فعل البوائق مع عدم أمن جاره منه؟( والبوائق : الغوائل والشرور). وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم ):” تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك “( متفق عليه عن أبى ذر ) .
لذلك لا يحل للمسلم مثلاً أن يدخن في مركبة مغلقة- سيارة أو طائرة أو مقصورة- فليحق الضرر بجيرانه فيها جميعاً ويعرضهم إلى مخاطر هذا المنشوق الخبيث. وهو وإن كان لا يجوز له أن يدخن ولو كان وحده فيعرض نفسه إلى أسباب المرض والهلاك، فعدم جواز ذلك في حق الغير أظهر. فالجار في مقعد الطائرة جار، وفي الأماكن العامة جار، والجار في داخل، البيت جار ذو فربى.. وقد أمرنا الله سبحانه في سورة النساء بالإحسان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب.. وليس تعريض أي منهم إلى مضار التدخين من الإحسان في شيء. . وقل مثل ذلك في الذي يلقي بفضلات بيته إمامه فيؤذي جيرانه ويؤذي المارة، أو الذي يصيب نفايات مصنعه في نهر أو جدول أمام مصنعه، وما شابه ذلك من، البوائق التي ينطبق عليها جميعاً حكم الضرر أو حكم الأذى على الأقل. وقد قال( النبي صلى الله عليه وسلم:” من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم “( رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن) بل قد حرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم ) كثيراً تعريض أي من أفراد المجتمع لأي أذى أو ضرر، وأقر باتخاذ جميع الاحتياطات الكفيلة بوقايتهم من ذلك، فقال مثلاً : “من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل( سهام)، فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه، أن يصيب، أحداً من المسلمين منها بشيء “( متفق عليه عن أبي موسى ) .
حفظ صحة البيئة فيه سلامة المجتمع وحماية لأمة المسلمين من الضرر وإعلاء لكلمة الله، ومن هنا نلاحظ أن الأحاديث الشريفة تتناول جوانب الوقاية والحماية بدرجة تكون أقرب إلى الأمر والإلزام. وكلما كانت الحماية مرتبطة بالمقاصد الخمس التي جاءت بها الشريعة كانت درجة الإلزام أكبر. فالإسلام يأمر الفرد بالابتعاد عن موطن الوباء ولكن وقاية المجتمع المسلم من انتشار الوباء تعلو على مصلحة الفرد الواحد وبذلك تصير التضحية بالنفس في سبيل سلامة المجتمع شهادة في سبيل الله . روى البخاري وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ” ليس من أحد يقع الطاعون ، فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد “.