إعلان الهدنة في الحرب على غزّة ليس حدثاً عابراً، فهو ليس مجرد وقف إطلاق نار لأربعة أيام بهدف إدخال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزّة؛ فهذا العدو الذي قتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وهجّر الملايين من بيوتهم، لا يقيم وزناً للاعتبارات الإنسانية ولداعميه في الغرب؛ صاحب التاريخ الاستعماري المعروف. الهدنة تعني أن العدو وحلفاءه أدركوا استحالة تحقيق أهدافه من الحرب، وأن عليه التراجع والانسحاب تحت دخان الاعتبارات الإنسانية.
الواقع على الأرض يشير إلى نزوح 1.7 مليون فلسطيني من منازلهم، وتدمير أكثر من 50% من المباني في القطاع، بما في ذلك خروج 80% من الخدمات الصحية و60% من المؤسسات التعليمية من الخدمة.
رغم فظاعة هذه الأرقام وضخامتها، فإنَّها لا تعكس إلا جزءاً بسيطاً من الحقيقة. ما زالت البيانات غير متوفرة حول الضرر الذي أصاب شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، وكذلك تدمير أماكن العمل من ورش ومحال ومصانع وأراضٍ زراعية.
يدور الحديث عن مليارات الدولارات التي تحتاجها إعادة الإعمار. تظهر في الخلفية دول غنية عربية وأجنبية تطلق وعوداً رنانة بتولي مهمة إعادة الإعمار، لكن هذه الوعود ليست مجانية، فهي مشروطة بالسر حيناً، وفي العلن أحياناً، بإنهاء ظاهرة المقاومة الفلسطينية في غزة ونزع سلاحها، بل إن البعض يذهب إلى طرح دخول قوات عربية وأجنبية إلى قطاع غزّة لضمان تحقيق الشروط الإسرائيلية الغربية.
في هذا السياق، يأتي انصياع العدو الصهيوني وحلفائه لشروط المقاومة لتطبيق الهدنة، ليكون الخطوة الأولى في طريق إفشال المخططات الخبيثة لمرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”، بعدما سقط شعار ما بعد حماس.
عملية إعادة الإعمار، كما يراها العدو الصهيوني والغرب وبعض العرب، هي المرحلة الثانية من الحرب التي تتم من خلالها مقايضة الفعل المقاوم باستعادة الحياة الطبيعة في مدن القطاع، وذلك من خلال تصوير المقاومة عائقاً يقف في وجه هذه العودة، ومحاولة عزلها عن قاعدتها الشعبية.
هذه السيناريوهات، رغم قوة من يقف وراءها، تبقى صعبة التحقيق في ظل حالة الاعتزاز بالنصر التي يعيشها الفلسطينيون. ويعزز السيناريو الفلسطيني فشل كل المحاولات السابقة لطرح حلول اقتصادية، فمن رفض هذه الحلول في زمن الحصار لن يقبلها في زمن الانتصار، إلا أن المحتفلين بنصر المقاومة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً مطالبون بالتفكير جدياً في خطط بديلة. انسحاب حلفاء العدو تدريجياً من وعودهم الرنانة يعني ترك القطاع في حالة تجعله غير قابل للسكن. حتى المشاريع التي أعلن عنها البعض ستتحول إلى استعراضات إعلامية لا تغني ولا تسمن من جوع.
يمثل جمع البيانات الدقيقة عن حجم الدمار والأحوال المعيشية للمواطنين، بما في ذلك توفر الخدمات المختلفة، ومنها فرص العمل، الخطوة الضرورية الأولى للتصدي للمهمة الصعبة.
بناءً على هذه البيانات، توضع الخطط بحسب الأولويات لإعادة الإعمار بالتعاون مع المؤسسات القائمة في القطاع. أما المهمة الأصعب فهي تمويل المشاريع، وخصوصاً مشاريع البنية التحتية الضرورية لعودة السكان إلى منازلهم.
بحسب المعايير الدولية، يشكل الإيواء الأولوية الأهم لدى المهجرين، وخصوصاً مع قدوم فصل الشتاء، تليه في الأهمية الخدمات الصحية وفرص العمل. تترافق عمليات إعادة الإعمار عادة بارتفاع عدد فرص العمل في قطاع البناء، لكن عمال المياومة والمصانع والورش الصغيرة والمتوسطة يعانون فقدان فرص العمل الشحيحة أصلاً في القطاع المحاصر منذ 16 عاماً.
نسبة البطالة في قطاع غزة هي الأعلى عالمياً، وتبلغ نحو 67%، ويشكل تأمين مواد البناء التحدي الأكبر لقطاع قادر على توفير فرص عمل مهمة. الموقف المصري مهم في هذا السياق، في ظل توقع استمرار الحصار من جانب العدو على المعابر بين فلسطين المحتلة والقطاع. تشكل الأعمال الصغيرة والمتوسطة القطاع الأهم لتوفير فرص العمل، وهي تحتاج إلى تمويل مؤسسي منظم لخلق مشاريع صغيرة ومساعدة المنتجين على تصريف بضائعهم.
معظم الجهود القادمة من الخارج ستنصب على القطاع الصحي، وخصوصاً المستشفيات، ما يمكن أن يترك ثغرة في مجال الرعاية الصحية الأولية، ويشكل ضغطاً على المستشفيات نفسها.
إيلاء قطاع الرعاية الصحية الأولية (الطب العام، طب الأطفال، الأمراض النسائية، الأمراض الباطنة) الاهتمام هو خطوة مهمة في عملية تعافي القطاع الصحي، فالعديد من المواطنين، وخصوصاً الأطفال، يعانون سوء التغذية والأمراض الالتهابية نتيجة المياه الملوثة، ويستنشقون الغبار والغاز، وبشكل رئيس الفسفور. ميزة المشاريع في هذه الجزئية من الخدمات الصحية هي عدم ارتفاع كلفتها، والتحدي الأصعب الذي يواجهها هو توفر القوى البشرية المدربة القادرة على إدارة هذه الخدمات.
التعاون الدولي ضروري في مجال استعادة شبكات المياه والكهرباء، وتعتبر دول مثل الصين وروسيا من أهم المستثمرين العالميين في مجال الطاقة، ويمكن لمشاريع التعاون المشترك، وخصوصاً في مجال الطاقة البديلة، وبالتحديد الطاقة الشمسية، أن تشكل بديلاً مهماً عاجلاً، حتى استكمال إعادة شبكة الكهرباء إلى العمل. أما في مجال المياه، فيمكن اللجوء إلى محطات تنقية المياه الصغيرة والمتوسطة بشكل مؤقت، حتى يتم إصلاح شبكات توصيل المياه ومحطات تنقيتها.
هذه المهمات الكبرى قد تبدو للبعض مستحيلة التحقيق بعيداً من المؤسسات الدولية والدول المانحة، لكن تضافر جهود المثقفين والإعلاميين والهيئات والمؤسسات السياسية الداعمة للمقاومة يمكن أن يحقق المعجزات.
إن لحضور الفعل الشعبي العربي المقاوم في مرحلة إعادة الإعمار نتائج تتجاوز الدور الاقتصادي والإنساني، لتصب في خانة الجدوى الوطنية والسياسية التي تمتن الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتجعل الشارع العربي شريكاً حقيقياً في الفعل المقاوم، ولا يقتصر دوره على البيانات والمسيرات.