يمضي رئيس وزراء حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، إلى أقصى مستويات الجنون في الحرب على غزة؛ إذ يدور حديث جادّ في أروقة القرار الأمني والسياسي الإسرائيلي حول التوجّه إلى احتلال القطاع بشكل كلي، بكل ما تحمله تلك الخطوة من تبعات سياسية وأمنية ومواقف دولية وأعباء اقتصادية ومدى زمني.
على أن الدافع إليها ليس انصياع نتنياهو لرغبات اليمين المتطرّف وخشيته على مصير ائتلافه الحكومي من التفكّك فحسب؛ فالأخير يمتلك من البراعة والمراوغة ما يؤهّله للفكاك من كل الفخاخ التي تعترض بقاء حكومته، غير أن نظرته الشخصية إلى هذه الحرب باتت تعدّها فرصة لن تتكرر ثانية لتدمير غزة بالكامل وتبديد الكينونة الفلسطينية في القطاع، وصولاً إلى تهجير سكانه إلى دول أخرى لم تُحدّد طبيعتها.
لأجل ذلك، نسف نتنياهو صفقة التبادل بعد أن شارفت على النضوج، فيما يرفض كل المقترحات التي قُدّمت من قبل أطراف دولية وإقليمية لوضع حدّ لهذه الحرب من خلال صفقة شاملة تنهي قضية الأسرى وتنقل إدارة غزة إلى جهة عربية من دون أن تدخل حركة «حماس» فيها. وهكذا، تقوم سياسة نتنياهو التي كشفتها 22 شهراً من الحرب، على التمسّك بالحلول الجزئية، واستخدام الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة ذريعة لمواصلتها، مع خوض جولات طويلة جداً من المفاوضات.
وفي هذا الوقت، يتواصل تغيير الوقائع الديموغرافية على الأرض، مِن طريق التدمير الكلي للأحياء والمدن السكنية. ويُشار، هنا، إلى أنه في خلال المفاوضات التي سبقت الوصول إلى هدنة الـ19 من كانون الثاني الماضي، دمّر جيش الاحتلال مدينة رفح ومخيم جباليا ومدينة بيت حانون ومدينة بيت لاهيا بشكل شبه كلي. وفي أثناء عملية مركبات جدعون، أتمّ تدمير الأحياء الشرقية لمدينة غزة وهي الشجاعية والتفاح والزيتون، واستثمر في الفوضى لتدمير البنية الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع، من طريق إذكاء دافع الصراع على البقاء.
وتجلّى ذلك في الآلية العشوائية التي يتمسّك بها العدو لتوزيع المساعدات، والمتمثّلة بالإنزالات الجوية والتوزيع الذاتي في المناطق الحُمر الحدودية ومصائد الموت الأميركية، وما يرافقها من تدافع واقتتال بيني بسبب تعمّد الاحتلال إدخال كميات قليلة من شاحنات المساعدات ليقتتل عليها مئات الآلاف من المنتظرين.
أمّا على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، فتثير خطة احتلال القطاع التي يتمسك بها كل من نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموترتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ومعهم أغلبية كابينت الحرب، حالة من الجدل؛ إذ يرى فيها مقرّ عائلات الأسرى الإسرائيليين حكماً على هؤلاء بالإعدام، وينظر إليها رئيس أركان الجيش، إيال زامير، على أنها «غرق في فخ حماس»، ليس فقط لأن الجيش مُستنزف ومُنهك وبحاجة إلى فترة من الراحة وإعادة التأهيل، إنما لأن المخطط يجبر الجنود على العمل طويلاً في القطاع، أي لمدة ستزيد على العامين، ومن شأنه أن يعرّض حياة الأسرى للخطر، ويضاعف الخسائر البشرية في صفوف الجنود.
وبدلاً من ذلك، قدّم زامير خطة أخرى تقضي بحصار مدينة غزة ومخيمات وسط القطاع وجنوبه، مع شن عمليات عسكرية خاطفة داخل تلك المناطق، وإقامة المزيد من المحاور التي تصل الشرق بالغرب مثل محورَيْ «موراج» و«نتساريم». وفي هذا السياق، قالت «القناة 12» العبرية إن زامير سيحاول إقناع المجلس الوزاري المصغّر بـ«خطأ» التوجه إلى احتلال القطاع. كما تحدّثت القناة نفسها عن عريضة قدّمها أكاديمون وخبراء في القانون الدولي لنتنياهو حذّروا فيها من أن شرعية الحرب على غزة صارت محل شك على الصعيد الدولي، لافتين إلى أن استمرارها سيُعتبر عملاً عدوانياً يتحمّل مسؤوليته القادة الكبار.
وأضافت القناة أن 550 مسؤولاً أمنياً إسرائيلياً نقلوا رسالة إلى نتنياهو حذّروا فيها من خطوة احتلال القطاع، وأنها قد تنتهي إلى فشلٍ مدوٍّ. وينسحب الموقف نفسه على زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، وزعيم «حزب الديمقراطيين» يائير غولان، الذي قال: «احتلال غزة وفرض حكم عسكري والتكاليف الفلكية المتوقّعة من حيث الدم والمال والعزلة الدولية وتحويلنا إلى دولة منبوذة ومقتل الأسرى… كل هذه أمور غير مقبولة على الإطلاق»، داعياً إلى «شل الاقتصاد والخروج في تظاهرات عارمة لأن الحكومة فقدت شرعيتها وتفرض علينا خطوات سندفع ثمنها لأجيال قادمة تفرض علينا حرباً أبدية».
وعلى المقلب الفلسطيني، أكّد القيادي في حركة «حماس»، باسم نعيم، أن الحركة تتعامل مع التهديدات الإسرائيلية بـ«شكل جادّ»، مشيراً إلى أن إسرائيل تسيطر فعلاً على قطاع غزة، بحراً وبراً وجواً. أما الشارع الغزاوي، فيبدو منعزلاً تماماً عن التهديدات وحدّتها وخطورتها، كونه بات يعيش «يوماً بيوم»؛ وانشغل الأهالي، أمس، بأسعار بعض البضائع التي دخلت كميات محدودة منها لأول مرة منذ شهور مثل السكر والجبنة، من دون أي اكتراث للخطوة الإسرائيلية القادمة.