عاش البيت الأبيض في اليومين الماضيين اجواءً احتفالية بإنجازه وقف إطلاق النار في غزة، ولم ينغّص عليه سوى خيبة الأمل بعدم فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بجائزة نوبل للسلام، التي ذهبت للمعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، والتي كان قد أعرب عن طموحه إلى نيلها مكافأةً له على هذا “الإنجاز”، ولم يخف ترامب عدم ارتياحه لمنحها لماتشادو متهماً لجنة الجائزة “بتغليب السياسة” على السلام.
الآن، مع بدء تنفيذ المرحلة الاولى من الاتفاق، بدأ الحديث عن هذا الشق يتراجع لصالح التوقعات والتقديرات بخصوص دور ترامب في المرحلة الثانية من خطته “للسلام” في المنطقة، ويتقدمها سؤال عما إذا كان ينوي الدفع باتجاه أن تكون الثانية تتمة للأولى، من خلال لعب الدور “الضاغط” نفسه الذي يكفل إحباط المناورات والعراقيل المتوقعة لأي مسار دبلوماسي.
والمداولات في هذا الموضوع بواشنطن مشوشة في أحسن أحوالها. فهي إذ لا تستبعد احتمال إصرار ترامب على المضي في ترجمة خطته بصورة أو بأخرى، إلا أنها تطرح علامات استفهام مبنية على سوابق بالسماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالالتفاف على المبادرات وإفشالها من دون رادع.
وفيما يتعلق بالشق الأول، ليس سراً في واشنطن أن ترامب “فرض” على نتنياهو (برغم نفي السفير الإسرائيلي في واشنطن) القبول بنقاطه الأربعة: وقف النار، الانسحاب الجزئي للقوات للإسرائيلية، الإفراج عن الأسرى الإسرائليين وعدد من الفلسطينيين، فضلاً عن فتح المعابر لتدفق المعونات الإنسانية إلى داخل القطاع.
وساعدت معطيات اللحظة الإقليمية والدبلوماسية والداخلية، فضلاً عن الميدانية (التجويع)، ترامب في حمل نتنياهو على الموافقة. مع ذلك، سجل له المراقبون والمعنيون، بمن فيهم خصومه، الدور الضاغط الذي أدى إلى هذه النتيجة، وثمة من يشمل مساهمة لجارد كوشنر (صهر ترامب) في هذا الدور.
لكن التحدي الأكبر يكمن في النقاط الـ 16 المتبقية، وخصوصاً المتعلقة بالانسحاب الكامل من القطاع، وموضوع الأسلحة وطيّ صفحة الحرب بصورة نهائية والإدارة الحكومية لغزة. فالاتفاق غامض وملتبس بشأن هذه النقاط المهمة، خصوصاً لجهة السقف الزمني للانسحاب الإسرائيلي النهائي أو مساحة المنطقة العازلة داخل القطاع وفترتها.
هذا فضلاً عن التناقضات في النص الذي يشير إلى هذه المنطقة وفي ذات الوقت يتحدث عن “انسحاب إسرائيلي كامل”. كذلك الأمر بالنسبة إلى اليوم التالي وترتيباته الإدارية والأمنية وحدود الصلاحيات للهيئة المشرفة، برئاسة توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، فضلاً عن دور ترامب الذي سيتولى منصب رئيس هيئة الإدارة الحاكمة في القطاع، ولو أنه موقع معنوي. والأهم من كل ذلك، الغموض الذي يكتنف مسألة الحل “الدائم” للنزاع كما وصفه ترامب، الذي ينبغي أن يتجسّد “من خلال مسار موثوق يؤدي إلى تقرير المصير وإقامة الدولة”، ويبدو التلغيم واضحاً في عبارة “تقرير المصير” التي طالما سبق واستخدمتها إسرائيل إطاراً بديلاً من الدولة.
كل هذه الضبابية في النص المفتوح على التأويل، تفسح المجال واسعاً لإسرائيل للتلاعب ومطّ مفاوضات المرحلة الثانية، بما يكفل نسفها بالتدريج كما جرى في مفاوضات أوسلو. ولذلك أصر نتنياهو ونجح في توزيع خطة ترامب على مرحلتين، اضطر في الأولى إلى الإذعان وترك، الثانية مفتوحة لتفسيرات إسرائيل، ومن هنا كان تشديده منذ البداية على القبول “بالمرحلة الأولى” من الخطة، وليس بخطة السلام كلها. وكأنه حرص على ترك خط الرجعة مفتوحاً. فالصيغة المطاطة توفر له فسحة واسعة للتملص وكسب الوقت، ربما للقيام بعمليات عسكرية في المنطقة تؤدي إلى الإرباك وصرف الأنظار عن غزة والخطة.
كان المستشار الرئاسي زبغنيو بريجنسكي قد قال مرة: إن المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية محكومة بألّا تؤدي إلى شيء بسبب الخلل في موازين القوى. وأضاف أن المخرج الوحيد يكمن في أن تأخذ واشنطن المبادرة وتضع المشروع المناسب ثم تدعو الجانبين إلى التوقيع عليه. وينطبق هذا على ما فعله ترامب قبل أيام لترجمة المرحلة الأولى من خطته. فهل يعيده في المرحلة الثانية التي يقول إنها تقود إلى “مسار الدولة”؟ يقال إن قراره بضم صهره جارد كوشنر إلى فريق المتابعة للموضوع “يعزز” احتمال تكرار السيناريو، لكن علامات الاستفهام تبقى كثيرة.